الليلة الحادية والعشرون علي (عليه السلام) يفارق الحياة
صفحة 1 من اصل 1
الليلة الحادية والعشرون علي (عليه السلام) يفارق الحياة
بسم الله الرحمن الرحيم
عظم الله أجوركم بمصيبة سيدنا وإمامنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ففي هذه الليلة قضى نحبه وفارق الحياة، وقد انطوت صفحات تلك الحياة المشرقة، واستراح الإمام من أيدي الناس وأفواههم وانتهت أيام مسؤوليته.
فقد جمعوا له أطباء الكوفة ومن جملتهم: أثير بن عمرو بن هاني السكوني فلما نظر إلى جرح رأس الإمام طلب رئة شاة حارة فاستخرج منها عرقاً ثم نفخه ثم استخرجه، وإذا عليه بياض الدماغ كأنه قطن مندوف فقال: يا أمير المؤمنين اعهد عهدك وأوص وصيتك فإن عدو الله قد وصلت ضربته إلى أم رأسك.
قال محمد بن الحنيفة: لما كانت ليلة إحدى وعشرين جمع أبي أولاده وأهل بيته وودعهم ثم قال لهم: الله خليفتي عليكم، وهو حسبي ونعم الوكيل، وأوصاهم بلزوم الإيمان..
وتزايد ولوج السم في جسده حتى نظرنا إلى قدميه وقد احمرتا جميعاً، فكبر ذلك علينا وأيسنا منه.
ثم عرضنا عليه المأكول والمشروب فأبى أن يشرب، فنظرنا إلى شفتيه يختلجان بذكر الله، ثم نادى أولاده كلهم بأسمائهم واحداً بعد واحد وجعل يودعهم وهم يبكون فقال الحسن: ما دعاك إلى هذا؟ فقال: يا بني إني رأيت جدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في منامي قبل هذه الكائنة بليلة فشكوت إليه ما أنا فيه من التذلل والأذى من هذه الأمة فقال لي: أدع عليهم فقلت: اللهم أبدلهم بي شراً مني وأبدلني بهم خيراً منهم.
فقال لي رسول الله: قد استجاب الله دعاك، سينقلك إلينا بعد ثلاث.
وقد مضت الثلاث، يا أبا محمد أوصيك ويا أبا عبد الله خيراً، فأنتما مني وأنا منكما، ثم ألتفت إلى أولاده الذين من غير فاطمة (عليها السلام) وأوصاهم أن لا يخالفوا أولاد فاطمة يعني الحسن والحسين، ثم قال: أحسن الله لكم العزاء، ألا وإني منصرف عنكم وراحل في ليلتي هذه ولاحق بحبيبي محمد (صلّى الله عليه وآله) كما وعدني، فإذا أنا مت ـ يا أبا محمد ـ فغسلني وكفني وحنطني ببقية حنوط جدك رسول الله، فإنه من كافور الجنة جاء به جبرائيل إليه، ثم ضعني على سريري، ولا يتقدم أحد منكم مقدم السرير، واحملوا مؤخره، واتبعوا مقدمه، فأي موضع وضع المقدم فضعوا المؤخر، فحيث قام سريري فهو موضع قبري، ثم تقدم ـ يا أبا محمد ـ وصل علي ـ يا بني يا حسن ـ وكبر علي سبعاً، واعلم أنه لا يحل ذلك على أحد غيري إلا على رجل يخرج في آخر الزمان اسمه: القائم المهدي من ولد أخيك الحسين يقيم اعوجاج الحق.
فإذا أنت صليت علي ـ يا حسن ـ فنح السرير عن موضعه ثم اكشف التراب عنه، فترى قبراً محفوراً، ولحداً مثقوباً وساجة منقوبة، فأضجعني فيها، فإذا أردت الخروج من قبري فتفقدني فإنك لا تجدني وإني لاحق بجدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأعلم يا بني: ما من نبي يموت وإن كان مدفوناً بالمشرق ويموت وصيه بالمغرب إلا ويجمع الله عز وجل بين روحيهما وجسديهما، ثم يفترقان فيرجع كل واحد منهما إلى موضع قبره وإلى موضعه الذي حط فيه.
ثم أشرج اللحد باللبن (جمع لبنة) وأهِل التراب عليُّ ثم غيِّب قبري.
وللإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وصية أخرى هي من جلائل وصاياه أوصى بها أولاده في مثل هذه الليلة، روى الصدوق في الفقيه عن سليم بن قيس الهلالي قال: شهدت وصية علي بن أبي طالب (عليه السلام) حين أوصى إلى أبنه الحسن (عليه السلام) وأشهد على وصيته الحسين (عليه السلام) ومحمد وجميع ولده ورؤساء أهل بيته وشيعته ثم دفع إليه الكتاب والسلاح ثم قال: يا بني أمرني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن أوصي إليك وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي، كما أوصى إلي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ودفع إلي كتبه وسلاحه وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعه إلى أخيك الحسين (عليه السلام) ثم أقبل على أبنه الحسين فقال: وأمرك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن تدفعه إلى ابنك علي بن الحسين ثم أقبل إلى إبنه علي بن الحسين (عليه السلام) فقال له: وأمرك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن تدفع وصيتك إلى ابنك محمد بن علي فأقرأه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومني السلام، ثم أقبل على أبنه الحسن فقال: يا بني أنت ولي الأمر بعدي وولي الدم فإن عفوت فلك، وإن قتلت فضربة مكان ضربة ولا تأثم، ثم قال أكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ثم إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين.
أوصيكما بتقوى الله وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما، وقولا بالحق واعملا للأجر (للآخرة) وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً.
أوصيكما وجميع ولدي وأهل بيتي (وأهلي) ومن بلغهم كتابي هذا من المؤمنين بتقوى الله ربكم، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم (بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم) فإني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام، وإن البغضة حالقة الدين وفساد ذات البين (وإن المبيرة الحالقة للدين فساد ذات البين) ولا قوة إلا بالله، انظروا ذوي أرحامكم فصلوهم يُهوّن الله عليكم الحساب، والله الله في الأيتام لا تغبوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم فإني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: من عال يتيماً حتى يستغني أوجب الله له الجنة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار، والله الله في القرآن فلا يسبقكم إلى العمل به غيركم، والله الله في جيرانكم فإن الله ورسوله أوصيا بهم (فإنه وصية نبيكم) ما زال يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم، والله الله في بيت ربكم فلا يخلون منكم ما بقيتم فإنه إن ترك لم تناظروا، الله الله في الصلاة! فإنها خير العمل وإنها عمود دينكم، الله الله في الزكاة فإنها تطفئ غضب ربكم، الله الله في صيام شهر رمضان فإن صيامه جنة من النار، الله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم فإنما يجاهد في سبيل الله رجلان: إمام هدى ومطيع له مقتد بهداه والله الله في ذرية نبيكم فلا يظلمن بين أظهركم، والله الله في أصحاب نبيكم الذين لم يحدثوا حدثاً ولم يؤوا محدثاً فإن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أوصى بهم، ولعن المحدث منهم ومن غيرهم، والمؤوي للمحدث، والله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معايشكم، والله الله في النساء وما ملكت أيمانكم فإن آخر ما تكلم به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن قال: أوصيكم بالضعيفين: نسائكم وما ملكت أيمانكم، ثم قال: الصلاة، الصلاة، الصلاة، ولا تخافن في الله لومة لائم، يكفكم من أرادكم وبغى عليكم، قولوا للناس حسناً كما أمركم الله عز وجل، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم أشراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم.
وعليكم بالتواصل والتباذل والتبار وإياكم والتقاطع والتدابر والتفرق، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب، حفظكم الله من أهل بيت وحفظ فيكم نبيكم، وأستودعكم الله خير مستودع، وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
يا بني عبد المطلب: لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون: قتل أمير المؤمنين.
ألا: لا تقتلن بي إلا قاتلي انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة ولا يمثل بالرجل فإني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور.
هكذا ينهي الإمام (عليه السلام) أولاده عن إقامة المجازر والمذابح لأجل الطلب بدمه كما كان الأمر في قضايا عثمان، يقول: لا تقتلوا إلا قاتلي.
ينهاهم عن التحقيق عن أصل الفتنة ورجال المؤامرة وأسباب الفساد ويأمرهم بالاكتفاء بالقصاص من القاتل، ثم ينهي عن قطع أعضائه.
ثم عرق جبين الإمام فجعل يمسح العرق بيده فقالت أبنته زينب: يا أبه أراك تمسح جبينك؟ قال: يا بنية سمعت جدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: إن المؤمن إذا نزل به الموت ودنت وفاته عرق جبينه وصار كاللؤلؤ الرطب، وسكن أنينه.
فقامت زينب وألقت بنفسها على صدر أبيها وقالت: يا أبه حدثتني أم أيمن بحديث كربلاء وقد أحببت أن أسمعه منك، فقال: يا بنية، الحديث كما حدثتك، أم أيمن، وكأني بك وبنساء أهلك لسبايا بهذا البلد، خاشعين تخافون أن يتخطفكم الناس، فصبراً صبراً..
ثم التفت الإمام إلى ولديه الحسن والحسين وقال: يا أبا محمد ويا أبا عبد الله كأني بكما وقدج خرجت عليكما من بعدي الفتن من ههنا وههنا فاصبرا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين يا أبا عبد الله أنت شهيد هذه الأمة، فعليك بتقوى الله والصبر على بلائه.
ثم أغمي عليه وأفاق وقال: هذا رسول الله، وعمي حمزة وأخي جعفر وأصحاب رسول الله، وكلهم يقولون: عجل قدومك علينا فإنا إليك مشتاقون، ثم أدار عينيه في أهل بيته كلهم وقال: أستودعكم الله جميعاً، سددكم الله جميعاً، خليفتي عليكم الله، وكفى بالله خليفة، ثم قال: وعليكم السلام يا رسل ربي، ثم قال: لمثل هذا فليعمل العاملون، (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)(1) .
وما زال يذكر الله، ويستشهد الشهادتين، ثم استقبل القبلة، وغمض عينيه ومدد رجليه ويديه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ثم قضى نحبه!! فعند ذلك صرخت زينب بنت علي وأم كلثوم وجميع نسائه وقد شققن الجيوب ولطمن الخدود، وارتفعت الصيحة في القصر، فعلم أهل الكوفة أن أمير المؤمنين قد فارق الحياة، فأقبل النساء والرجال يهرعون أفواجاً، وصاحوا صيحة عظيمة فارتجت الكوفة بأهلها، وكثر البكاء والنحيب والضجيج بالكوفة وقبائلها وجميع أقصارها، فكان ذلك اليوم كاليوم الذي مات فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتغير أفق السماء، وسمع الناس أصواتاً وتسبيحاً في الهواء، واشتغلوا بالنياحة على الإمام.
ثم قام أولاده لتجهيزه ليلاً، ولما جردوه عن ثيابه، وجدوا على جسده الشريف آثار ألف جراحة من قرنه إلى قدميه وهي الجراحات التي أصابته في سبيل الله في الحروب، وكان الحسن يغسله والحسين يصب عليه الماء، وكان (عليه السلام) لا يحتاج إلى من يقلبه، بل كان يتقلّب كما يريد الغاسل يميناً وشمالاً، لأن الملائكة كانت تقلّبه وكانت رائحته أطيب من رائحة المسك.
ثم نادى الحسن بأخته زينب وأم كلثوم وقال: يا أختاه هلمي بحنوط جدي رسول الله، فبادرت زينب مسرعة حتى أتته به، فلما فتحته فاحت الدار وجميع الكوفة، ولما حنطوه لفوه بخمسة أثواب ثم وضعوه على السرير وتقدم الحسن والحسين إلى السرير من مؤخره وإذا مقدمه قد ارتفع، ولا يرى حامله، وكان حاملاه جبرائيل وميكائيل، فما مر بشيء على وجه الأرض إلا انحنى له.
وضجت الكوفة بالبكاء والنحيب، وخرجت النساء خلف الجنازة لاطمات فمنعهن الحسن وردهن إلى أماكنهم، والحسين يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أنا لله وأنا إليه راجعون، يا أبتاه واإنقطاع ظهراه، من أجلك تعلمت البكاء، إلى الله المشتكى.
أمر الإمام الحسن الناس بالإنصراف، ولم يبق إلا أولاد أمير المؤمنين وعدد قليل من أخص أصحابه المعتمد عليهم، فابتعدوا عن الكوفة في جوف الليل قاصدين النجف، وإذا بمقدم السرير قد وضع، فوضع الحسن والحسين مؤخر السرير، وقام الحسن وصلى مع جماعة على أبيه فكبر سبعاً كما أمر أبوه، ثم زحزح السرير، وكشف التراب وإذا بقبر مقبور ولحد مشقوق وساجة منقورة مكتوب عليها: هذا ادخره نوح النبي للعبد الصالح الطاهر بن المطهر.
ولما أرادوا إنزاله إلى القبر سمعوا هاتفاً يقول: أنزلوه إلى التربة الطاهرة فقد اشتاق الحبيب إلى الحبيب، فدهش الناس من سماع الهاتف، وانتهى الدفن قبل الفجر، وأخفوا قبره كما أوصى به، لأنه (عليه السلام) كان يعلم من عداوة الخوارج والأعداء له، فقد روي في منتخب التواريخ أن الحجاج بن يوسف نبش في النجف آلاف القبور يفتش عن جثمان علي (عليه السلام) ولكنه لم يعثر عليه، ولم يزل القبر مخفياً عن الناس لا يعرف به إلا أولاد الإمام وأخصاء الشيعة إلى أيام هارون الرشيد.
قال عبد الله بن حازم: خرجنا يوماً مع الرشيد من الكوفة نتصيد فصرنا إلى ناحية الغري، فرأينا ظبيات، فأرسلنا إليها الصقور والكلاب، فحاولتها ساعة، ثم لجأت الظباء إلى الأكمة فسقطت عليها، فسقطت الصقور والكلاب، فتعجب الرشيد من ذلك ثم أن الظباء هبطت من الأكمة فسقطت الصقور والكلاب فرجعت الظباء إلى الأكمة، فتراجعت عنها الكلاب والصقور ففعلت ذلك ثلاثة، فقال هارون: أركضوا فمن لقيتموه آتوني به؟ فأتيناه بشيخ من بني أسد، فقال هارون ما هذه الأكمة؟ قال: إن جعلت لي الأمان أخبرتك! قال: لك عهد الله وميثاقه أن لا أهيجك ولا أؤذيك.
قال الشيخ حدثني أبي عن أبيه أنهم كانوا يقولون: هذه الأكمة قبر علي بن أبي طالب (عليه السلام) جعله الله حرماً لا يأوي إليه أحد إلا أمن.
فنزل هارون ودعى بماء فتوضأ وصلى عند الأكمة وتمرغ عليها وجعل يبكي، وأمر ببناء القبة على القبر، ومن ذلك اليوم لم يزل البناء في تطور وهو الآن صرح بديع متلألئ، وبناء مشيد من قبة ذهبية ومنارتين ذهبيتين، ومشهد عظيم وضريح فخم في داخله صندوق لا يثمن، والبقعة مزينة بهدايا الملوك والسلاطين على مر القرون، وقد بني المشهد على أحسن هندسة وأبدع فن معماري وأجمل نقوش يتوصل إليها الفكر البشري.
والمعلقات الموجودة والذخائر المكنونة والهدايا الثمينة لا يمكن تقديرها وتثمينها، ويقصد القبر الشريف ملايين من الناس من شرق الأرض وغربها، وكذلك الوفود والسواح من المسلمين.
تأبين علي
ولما فرغوا من دفن الإمام (عليه السلام) قام صعصعة بن صوحان يؤبن الإمام بهذه الكلمات، فوقف على القبر ووضع إحدى يديه على فؤاده والأخرى قد أخذ بها التراب وضرب به رأسه ثم قال: بأبي لأنت وأمي يا أمير المؤمنين هنيئاً لك يا أبا الحسن، فلقد طاب مولدك، وقوي صبرك، وعظم جهادك وظفرت برأيك، وربحت تجارتك، وقدمت على خالقك فتلقاك ببشارته، وحفتك ملائكته، واستقررت في جوار المصطفى فأكرمك الله بجواره، ولحقت بدرجة أخيك المصطفى وشربت بكأسه الأوفى، فأسأل الله أن يمن علينا باقتفائنا أثرك، والعمل بسيرتك، والموالاة لأوليائك، والمعاداة لأعدائك، وأن يحشرنا في زمرة أوليائك، فقد نلت ما لم ينله أحد، وأدركت ما لم يدركه أحد، وجاهدت في سبيل ربك بين يدي أخيك المصطفى حق جهاده، وقمت بدين الله حق القيام حتى أقمت السنن، وأبرت الفتن، واستقام الإسلام وأنتظم الإيمان، فعليك مني أفضل الصلاة والسلام، بك أعتدل ظهر المؤمنين واتضحت أعلام السبل، وأقيمت السنن، وما جمع لأحد مناقبك وخصالك، سبقت إلى إجابة النبي (صلّى الله عليه وآله) مقدماً مؤثراً، وسارعت إلى نصرته، ووقيته بنفسك ورميت سيفك ذا الفقار في مواطن الخوف والحذر، قصم الله بك كل جبار عنيد، وذل بك كل ذي بأس شديد، وهدم بك حصون أهل الشرك والكفر والعدوان والردى، وقتل بك أهل الضلال من العدى، فهنيئاً لك يا أمير المؤمنين كنت أقرب الناس من رسول الله قربى وأولهم سلماً وأكثرهم علماً وفهماً.
فهنيئاً لك يا أبا الحسن، لقد شرف الله مقامك، وكنت أقرب الناس إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نسباً، وأولهم إسلاماً وأوفاهم يقيناً، وأشدهم قلباً، وأبذلهم لنفسه مجاهداً، وأعظمهم في الخير نصيباً، فلا حرمنا الله أجرك، ولا ذلنا بعدك، فوالله لقد كانت حياتك مفاتيح للخير ومغالق للشر، وإن يومك هذا مفتاح كل شر ومغلاق كل خير، ولو أن الناس قبلوا منك لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنهم آثروا الدنيا على الآخرة.
ذكر ابن أبي الحديد أن صعصعة بن صوحان العبدي رثا أمير المؤمنين علياً بهذه الأبيات:
ألا، من لي بأنسك يا أخيـــــــا ومــن لي أن أبثك ما لديـــا؟
طوتك خطوب دهر قد تولــــى لذاك خطوبه نشراً وطيـــــا
فلو نشرت قواك لي المنايـــــا شكــوت إليك ما صنعت إليا
بكيتك يا علي بدرّ عينـــــــــي فلم يغن البكاء عليك شيـــــا
كفى حزناً بدفنك ثم إنــــــــــي نفضـت تراب قبرك من يديا
وكانت في حياتك لي عظـــــاة وأنت اليوم أوعظ منك حيــا
فيا أسفي عليك وطول شوقي ألا لو أن ذلك رد شيــــــــــا
ثم بكى بكاءً شديداً وأبكى كل من كان معه، وعدلوا إلى الحسن والحسين ومحمد وجعفر
عظم الله أجوركم بمصيبة سيدنا وإمامنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ففي هذه الليلة قضى نحبه وفارق الحياة، وقد انطوت صفحات تلك الحياة المشرقة، واستراح الإمام من أيدي الناس وأفواههم وانتهت أيام مسؤوليته.
فقد جمعوا له أطباء الكوفة ومن جملتهم: أثير بن عمرو بن هاني السكوني فلما نظر إلى جرح رأس الإمام طلب رئة شاة حارة فاستخرج منها عرقاً ثم نفخه ثم استخرجه، وإذا عليه بياض الدماغ كأنه قطن مندوف فقال: يا أمير المؤمنين اعهد عهدك وأوص وصيتك فإن عدو الله قد وصلت ضربته إلى أم رأسك.
قال محمد بن الحنيفة: لما كانت ليلة إحدى وعشرين جمع أبي أولاده وأهل بيته وودعهم ثم قال لهم: الله خليفتي عليكم، وهو حسبي ونعم الوكيل، وأوصاهم بلزوم الإيمان..
وتزايد ولوج السم في جسده حتى نظرنا إلى قدميه وقد احمرتا جميعاً، فكبر ذلك علينا وأيسنا منه.
ثم عرضنا عليه المأكول والمشروب فأبى أن يشرب، فنظرنا إلى شفتيه يختلجان بذكر الله، ثم نادى أولاده كلهم بأسمائهم واحداً بعد واحد وجعل يودعهم وهم يبكون فقال الحسن: ما دعاك إلى هذا؟ فقال: يا بني إني رأيت جدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في منامي قبل هذه الكائنة بليلة فشكوت إليه ما أنا فيه من التذلل والأذى من هذه الأمة فقال لي: أدع عليهم فقلت: اللهم أبدلهم بي شراً مني وأبدلني بهم خيراً منهم.
فقال لي رسول الله: قد استجاب الله دعاك، سينقلك إلينا بعد ثلاث.
وقد مضت الثلاث، يا أبا محمد أوصيك ويا أبا عبد الله خيراً، فأنتما مني وأنا منكما، ثم ألتفت إلى أولاده الذين من غير فاطمة (عليها السلام) وأوصاهم أن لا يخالفوا أولاد فاطمة يعني الحسن والحسين، ثم قال: أحسن الله لكم العزاء، ألا وإني منصرف عنكم وراحل في ليلتي هذه ولاحق بحبيبي محمد (صلّى الله عليه وآله) كما وعدني، فإذا أنا مت ـ يا أبا محمد ـ فغسلني وكفني وحنطني ببقية حنوط جدك رسول الله، فإنه من كافور الجنة جاء به جبرائيل إليه، ثم ضعني على سريري، ولا يتقدم أحد منكم مقدم السرير، واحملوا مؤخره، واتبعوا مقدمه، فأي موضع وضع المقدم فضعوا المؤخر، فحيث قام سريري فهو موضع قبري، ثم تقدم ـ يا أبا محمد ـ وصل علي ـ يا بني يا حسن ـ وكبر علي سبعاً، واعلم أنه لا يحل ذلك على أحد غيري إلا على رجل يخرج في آخر الزمان اسمه: القائم المهدي من ولد أخيك الحسين يقيم اعوجاج الحق.
فإذا أنت صليت علي ـ يا حسن ـ فنح السرير عن موضعه ثم اكشف التراب عنه، فترى قبراً محفوراً، ولحداً مثقوباً وساجة منقوبة، فأضجعني فيها، فإذا أردت الخروج من قبري فتفقدني فإنك لا تجدني وإني لاحق بجدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأعلم يا بني: ما من نبي يموت وإن كان مدفوناً بالمشرق ويموت وصيه بالمغرب إلا ويجمع الله عز وجل بين روحيهما وجسديهما، ثم يفترقان فيرجع كل واحد منهما إلى موضع قبره وإلى موضعه الذي حط فيه.
ثم أشرج اللحد باللبن (جمع لبنة) وأهِل التراب عليُّ ثم غيِّب قبري.
وللإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وصية أخرى هي من جلائل وصاياه أوصى بها أولاده في مثل هذه الليلة، روى الصدوق في الفقيه عن سليم بن قيس الهلالي قال: شهدت وصية علي بن أبي طالب (عليه السلام) حين أوصى إلى أبنه الحسن (عليه السلام) وأشهد على وصيته الحسين (عليه السلام) ومحمد وجميع ولده ورؤساء أهل بيته وشيعته ثم دفع إليه الكتاب والسلاح ثم قال: يا بني أمرني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن أوصي إليك وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي، كما أوصى إلي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ودفع إلي كتبه وسلاحه وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعه إلى أخيك الحسين (عليه السلام) ثم أقبل على أبنه الحسين فقال: وأمرك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن تدفعه إلى ابنك علي بن الحسين ثم أقبل إلى إبنه علي بن الحسين (عليه السلام) فقال له: وأمرك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن تدفع وصيتك إلى ابنك محمد بن علي فأقرأه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومني السلام، ثم أقبل على أبنه الحسن فقال: يا بني أنت ولي الأمر بعدي وولي الدم فإن عفوت فلك، وإن قتلت فضربة مكان ضربة ولا تأثم، ثم قال أكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ثم إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين.
أوصيكما بتقوى الله وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما، وقولا بالحق واعملا للأجر (للآخرة) وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً.
أوصيكما وجميع ولدي وأهل بيتي (وأهلي) ومن بلغهم كتابي هذا من المؤمنين بتقوى الله ربكم، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم (بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم) فإني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام، وإن البغضة حالقة الدين وفساد ذات البين (وإن المبيرة الحالقة للدين فساد ذات البين) ولا قوة إلا بالله، انظروا ذوي أرحامكم فصلوهم يُهوّن الله عليكم الحساب، والله الله في الأيتام لا تغبوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم فإني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: من عال يتيماً حتى يستغني أوجب الله له الجنة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار، والله الله في القرآن فلا يسبقكم إلى العمل به غيركم، والله الله في جيرانكم فإن الله ورسوله أوصيا بهم (فإنه وصية نبيكم) ما زال يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم، والله الله في بيت ربكم فلا يخلون منكم ما بقيتم فإنه إن ترك لم تناظروا، الله الله في الصلاة! فإنها خير العمل وإنها عمود دينكم، الله الله في الزكاة فإنها تطفئ غضب ربكم، الله الله في صيام شهر رمضان فإن صيامه جنة من النار، الله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم فإنما يجاهد في سبيل الله رجلان: إمام هدى ومطيع له مقتد بهداه والله الله في ذرية نبيكم فلا يظلمن بين أظهركم، والله الله في أصحاب نبيكم الذين لم يحدثوا حدثاً ولم يؤوا محدثاً فإن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أوصى بهم، ولعن المحدث منهم ومن غيرهم، والمؤوي للمحدث، والله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معايشكم، والله الله في النساء وما ملكت أيمانكم فإن آخر ما تكلم به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن قال: أوصيكم بالضعيفين: نسائكم وما ملكت أيمانكم، ثم قال: الصلاة، الصلاة، الصلاة، ولا تخافن في الله لومة لائم، يكفكم من أرادكم وبغى عليكم، قولوا للناس حسناً كما أمركم الله عز وجل، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم أشراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم.
وعليكم بالتواصل والتباذل والتبار وإياكم والتقاطع والتدابر والتفرق، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب، حفظكم الله من أهل بيت وحفظ فيكم نبيكم، وأستودعكم الله خير مستودع، وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
يا بني عبد المطلب: لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون: قتل أمير المؤمنين.
ألا: لا تقتلن بي إلا قاتلي انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة ولا يمثل بالرجل فإني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور.
هكذا ينهي الإمام (عليه السلام) أولاده عن إقامة المجازر والمذابح لأجل الطلب بدمه كما كان الأمر في قضايا عثمان، يقول: لا تقتلوا إلا قاتلي.
ينهاهم عن التحقيق عن أصل الفتنة ورجال المؤامرة وأسباب الفساد ويأمرهم بالاكتفاء بالقصاص من القاتل، ثم ينهي عن قطع أعضائه.
ثم عرق جبين الإمام فجعل يمسح العرق بيده فقالت أبنته زينب: يا أبه أراك تمسح جبينك؟ قال: يا بنية سمعت جدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: إن المؤمن إذا نزل به الموت ودنت وفاته عرق جبينه وصار كاللؤلؤ الرطب، وسكن أنينه.
فقامت زينب وألقت بنفسها على صدر أبيها وقالت: يا أبه حدثتني أم أيمن بحديث كربلاء وقد أحببت أن أسمعه منك، فقال: يا بنية، الحديث كما حدثتك، أم أيمن، وكأني بك وبنساء أهلك لسبايا بهذا البلد، خاشعين تخافون أن يتخطفكم الناس، فصبراً صبراً..
ثم التفت الإمام إلى ولديه الحسن والحسين وقال: يا أبا محمد ويا أبا عبد الله كأني بكما وقدج خرجت عليكما من بعدي الفتن من ههنا وههنا فاصبرا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين يا أبا عبد الله أنت شهيد هذه الأمة، فعليك بتقوى الله والصبر على بلائه.
ثم أغمي عليه وأفاق وقال: هذا رسول الله، وعمي حمزة وأخي جعفر وأصحاب رسول الله، وكلهم يقولون: عجل قدومك علينا فإنا إليك مشتاقون، ثم أدار عينيه في أهل بيته كلهم وقال: أستودعكم الله جميعاً، سددكم الله جميعاً، خليفتي عليكم الله، وكفى بالله خليفة، ثم قال: وعليكم السلام يا رسل ربي، ثم قال: لمثل هذا فليعمل العاملون، (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)(1) .
وما زال يذكر الله، ويستشهد الشهادتين، ثم استقبل القبلة، وغمض عينيه ومدد رجليه ويديه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ثم قضى نحبه!! فعند ذلك صرخت زينب بنت علي وأم كلثوم وجميع نسائه وقد شققن الجيوب ولطمن الخدود، وارتفعت الصيحة في القصر، فعلم أهل الكوفة أن أمير المؤمنين قد فارق الحياة، فأقبل النساء والرجال يهرعون أفواجاً، وصاحوا صيحة عظيمة فارتجت الكوفة بأهلها، وكثر البكاء والنحيب والضجيج بالكوفة وقبائلها وجميع أقصارها، فكان ذلك اليوم كاليوم الذي مات فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتغير أفق السماء، وسمع الناس أصواتاً وتسبيحاً في الهواء، واشتغلوا بالنياحة على الإمام.
ثم قام أولاده لتجهيزه ليلاً، ولما جردوه عن ثيابه، وجدوا على جسده الشريف آثار ألف جراحة من قرنه إلى قدميه وهي الجراحات التي أصابته في سبيل الله في الحروب، وكان الحسن يغسله والحسين يصب عليه الماء، وكان (عليه السلام) لا يحتاج إلى من يقلبه، بل كان يتقلّب كما يريد الغاسل يميناً وشمالاً، لأن الملائكة كانت تقلّبه وكانت رائحته أطيب من رائحة المسك.
ثم نادى الحسن بأخته زينب وأم كلثوم وقال: يا أختاه هلمي بحنوط جدي رسول الله، فبادرت زينب مسرعة حتى أتته به، فلما فتحته فاحت الدار وجميع الكوفة، ولما حنطوه لفوه بخمسة أثواب ثم وضعوه على السرير وتقدم الحسن والحسين إلى السرير من مؤخره وإذا مقدمه قد ارتفع، ولا يرى حامله، وكان حاملاه جبرائيل وميكائيل، فما مر بشيء على وجه الأرض إلا انحنى له.
وضجت الكوفة بالبكاء والنحيب، وخرجت النساء خلف الجنازة لاطمات فمنعهن الحسن وردهن إلى أماكنهم، والحسين يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أنا لله وأنا إليه راجعون، يا أبتاه واإنقطاع ظهراه، من أجلك تعلمت البكاء، إلى الله المشتكى.
أمر الإمام الحسن الناس بالإنصراف، ولم يبق إلا أولاد أمير المؤمنين وعدد قليل من أخص أصحابه المعتمد عليهم، فابتعدوا عن الكوفة في جوف الليل قاصدين النجف، وإذا بمقدم السرير قد وضع، فوضع الحسن والحسين مؤخر السرير، وقام الحسن وصلى مع جماعة على أبيه فكبر سبعاً كما أمر أبوه، ثم زحزح السرير، وكشف التراب وإذا بقبر مقبور ولحد مشقوق وساجة منقورة مكتوب عليها: هذا ادخره نوح النبي للعبد الصالح الطاهر بن المطهر.
ولما أرادوا إنزاله إلى القبر سمعوا هاتفاً يقول: أنزلوه إلى التربة الطاهرة فقد اشتاق الحبيب إلى الحبيب، فدهش الناس من سماع الهاتف، وانتهى الدفن قبل الفجر، وأخفوا قبره كما أوصى به، لأنه (عليه السلام) كان يعلم من عداوة الخوارج والأعداء له، فقد روي في منتخب التواريخ أن الحجاج بن يوسف نبش في النجف آلاف القبور يفتش عن جثمان علي (عليه السلام) ولكنه لم يعثر عليه، ولم يزل القبر مخفياً عن الناس لا يعرف به إلا أولاد الإمام وأخصاء الشيعة إلى أيام هارون الرشيد.
قال عبد الله بن حازم: خرجنا يوماً مع الرشيد من الكوفة نتصيد فصرنا إلى ناحية الغري، فرأينا ظبيات، فأرسلنا إليها الصقور والكلاب، فحاولتها ساعة، ثم لجأت الظباء إلى الأكمة فسقطت عليها، فسقطت الصقور والكلاب، فتعجب الرشيد من ذلك ثم أن الظباء هبطت من الأكمة فسقطت الصقور والكلاب فرجعت الظباء إلى الأكمة، فتراجعت عنها الكلاب والصقور ففعلت ذلك ثلاثة، فقال هارون: أركضوا فمن لقيتموه آتوني به؟ فأتيناه بشيخ من بني أسد، فقال هارون ما هذه الأكمة؟ قال: إن جعلت لي الأمان أخبرتك! قال: لك عهد الله وميثاقه أن لا أهيجك ولا أؤذيك.
قال الشيخ حدثني أبي عن أبيه أنهم كانوا يقولون: هذه الأكمة قبر علي بن أبي طالب (عليه السلام) جعله الله حرماً لا يأوي إليه أحد إلا أمن.
فنزل هارون ودعى بماء فتوضأ وصلى عند الأكمة وتمرغ عليها وجعل يبكي، وأمر ببناء القبة على القبر، ومن ذلك اليوم لم يزل البناء في تطور وهو الآن صرح بديع متلألئ، وبناء مشيد من قبة ذهبية ومنارتين ذهبيتين، ومشهد عظيم وضريح فخم في داخله صندوق لا يثمن، والبقعة مزينة بهدايا الملوك والسلاطين على مر القرون، وقد بني المشهد على أحسن هندسة وأبدع فن معماري وأجمل نقوش يتوصل إليها الفكر البشري.
والمعلقات الموجودة والذخائر المكنونة والهدايا الثمينة لا يمكن تقديرها وتثمينها، ويقصد القبر الشريف ملايين من الناس من شرق الأرض وغربها، وكذلك الوفود والسواح من المسلمين.
تأبين علي
ولما فرغوا من دفن الإمام (عليه السلام) قام صعصعة بن صوحان يؤبن الإمام بهذه الكلمات، فوقف على القبر ووضع إحدى يديه على فؤاده والأخرى قد أخذ بها التراب وضرب به رأسه ثم قال: بأبي لأنت وأمي يا أمير المؤمنين هنيئاً لك يا أبا الحسن، فلقد طاب مولدك، وقوي صبرك، وعظم جهادك وظفرت برأيك، وربحت تجارتك، وقدمت على خالقك فتلقاك ببشارته، وحفتك ملائكته، واستقررت في جوار المصطفى فأكرمك الله بجواره، ولحقت بدرجة أخيك المصطفى وشربت بكأسه الأوفى، فأسأل الله أن يمن علينا باقتفائنا أثرك، والعمل بسيرتك، والموالاة لأوليائك، والمعاداة لأعدائك، وأن يحشرنا في زمرة أوليائك، فقد نلت ما لم ينله أحد، وأدركت ما لم يدركه أحد، وجاهدت في سبيل ربك بين يدي أخيك المصطفى حق جهاده، وقمت بدين الله حق القيام حتى أقمت السنن، وأبرت الفتن، واستقام الإسلام وأنتظم الإيمان، فعليك مني أفضل الصلاة والسلام، بك أعتدل ظهر المؤمنين واتضحت أعلام السبل، وأقيمت السنن، وما جمع لأحد مناقبك وخصالك، سبقت إلى إجابة النبي (صلّى الله عليه وآله) مقدماً مؤثراً، وسارعت إلى نصرته، ووقيته بنفسك ورميت سيفك ذا الفقار في مواطن الخوف والحذر، قصم الله بك كل جبار عنيد، وذل بك كل ذي بأس شديد، وهدم بك حصون أهل الشرك والكفر والعدوان والردى، وقتل بك أهل الضلال من العدى، فهنيئاً لك يا أمير المؤمنين كنت أقرب الناس من رسول الله قربى وأولهم سلماً وأكثرهم علماً وفهماً.
فهنيئاً لك يا أبا الحسن، لقد شرف الله مقامك، وكنت أقرب الناس إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نسباً، وأولهم إسلاماً وأوفاهم يقيناً، وأشدهم قلباً، وأبذلهم لنفسه مجاهداً، وأعظمهم في الخير نصيباً، فلا حرمنا الله أجرك، ولا ذلنا بعدك، فوالله لقد كانت حياتك مفاتيح للخير ومغالق للشر، وإن يومك هذا مفتاح كل شر ومغلاق كل خير، ولو أن الناس قبلوا منك لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنهم آثروا الدنيا على الآخرة.
ذكر ابن أبي الحديد أن صعصعة بن صوحان العبدي رثا أمير المؤمنين علياً بهذه الأبيات:
ألا، من لي بأنسك يا أخيـــــــا ومــن لي أن أبثك ما لديـــا؟
طوتك خطوب دهر قد تولــــى لذاك خطوبه نشراً وطيـــــا
فلو نشرت قواك لي المنايـــــا شكــوت إليك ما صنعت إليا
بكيتك يا علي بدرّ عينـــــــــي فلم يغن البكاء عليك شيـــــا
كفى حزناً بدفنك ثم إنــــــــــي نفضـت تراب قبرك من يديا
وكانت في حياتك لي عظـــــاة وأنت اليوم أوعظ منك حيــا
فيا أسفي عليك وطول شوقي ألا لو أن ذلك رد شيــــــــــا
ثم بكى بكاءً شديداً وأبكى كل من كان معه، وعدلوا إلى الحسن والحسين ومحمد وجعفر
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى