الليلة السابعة عشرة الغارات الثلاث على بلاد الإمام (عليه السلام)
صفحة 1 من اصل 1
الليلة السابعة عشرة الغارات الثلاث على بلاد الإمام (عليه السلام)
بسم الله الرحمن الرحيم
لما وقع التحكيم في صفين وحصل الانشقاق والافتراق في أصحاب الإمام وتكونت الخوارج انتهز معاوية الفرصة فكان يرسل الجيوش إلى بلاد الإمام (عليه السلام) ويفتك بالناس ويهاجمهم غدرا وصبرا.
وقد تكررت منه هذه الجريمة والجناية، ونقتطف ثلاث غارات شنها معاوية على المسلمين وأقام المجازر والمذابح وبلغ أقصى مراتب القساوة والوحشية والهمجية، نذكر لكم كل غارة بشيء من التفصيل:
الغارة الأولى
روى ابن أبي الحديد عن ابن الكنوز قال: حدثني سفيان بن عوف الغامدي قال: دعاني معاوية فقال: إني باعثك في جيش ذي أداة وجلادة، فالزم لي جانب الفرات حتى تمر بـ(هيت) فتقطعها، فإن وجدت بها جندا فأغِر عليهم، وإلا فامض حتى تغير على الأنبار، فإن لم تجد بها جندا فامض حتى توغل المدائن ثم أقبل إلي: واتق أن تقرب الكوفة ـ واعلم: أنك إن أغرت على الأنبار وأهل المدائن فكأنك أغرت على الكوفة ـ إن هذه الغارات يا سفيان: على أهل العرق ترعب قلوبهم وتفرح كل من له فينا هوى منهم، وتدعو إلينا كل من خاف الدوائر، فاقتل من لقيته ممن ليس هو على مثل رأيك، واخرب كل ما مررت به من القرى، وصرب الأموال شبيه بالقتل، وهو أوجع للقلب.
هذه وصايا معاوية، هكذا يأمر عميله بالقتل والحرق والهدم والسلب والنهب بقوم مسلمين مؤمنين، ومع ذلك هو أمير المؤمنين!! قال سفيان: فخرجت من عنده فعسكرت، وقام معاوية في الناس فخطبهم فقال: أيها الناس، انتدبوا مع سفيان بن عوف فإنه وجه عظيم فيه أجر، سريعة فيه أوبتكم إن شاء الله.
ثم نزل.
فوالله الذي لا إله غيره ما مرت ثالثة حتى خرجت في ستة آلاف، ثم لزمت شاطئ الفرات، فأغذذت (أسرعت) السير حتى أمر بهيت فبلغهم أني قد غشيتهم فقطعوا الفرات فمررت بها وما بها غريب، كأنها لم تحلل قط، فوطأتها حتى أمر بصدوراء ففروا، فلم ألق بها أحدا، فأمضي حتى أفتتح الأنبار، وقد أنذروا بي، فخرج صاحب المسلحة إلي، فوقف فلم أقدم عليه حتى أخذت غلمانا من أهل القرية فقلت لهم: أخبروني كم بالأنبار من أصحاب علي؟ قالوا: عدة رجال المسلحة خمسمائة، ولكنهم تبددوا ورجعوا إلى الكوفة، ولا ندري الذي يكون فيها، قد يكون مائتي رجل.
فنزلت فكتبت أصحابي كتائب، ثم أخذت أبعثهم إليه كتيبة بعد كتيبة، فيقاتلهم والله ويصبر لهم ويطاردهم، ويطاردونه في الأزقة، فلما رأيت ذلك أنزلت إليهم نحوا من مأتين، وأتبعتهم الخيل، فلما حملت الخيل وأمامها الرجال تمشي لم يكن شيء حتى تفرقوا، وقتل صاحبهم في نحو ثلاثين رجلا، وحملنا ما كان من الأنبار من الأموال، ثم انصرفت، فوالله ما غزوت غزاة كانت أسلم ولا أقر للعيون، ولا أسر للنفوس منها وبلغني أنها رعبت الناس، فلما عدت إلى معاوية حدثته الحديث على وجهه فقال: كنت عند ظني بك.
ولا تنزل في بلد من بلداني إلا قضيت فيه مثل ما يقضي فيه أميره، وإن أحببت تولية وليتك، وليس لأحد من خلق الله عليك أمر دوني...الخ.
وصلت هذه الأخبار إلى الإمام (عليه السلام) فصعد المنبر فخطب الناس وقال: إن أخاكم البكري ـ عامل الأنبار ـ قد أصيب، وهو اختار ما عند الله على الدنيا فانتدبوا إليهم حتى تلاقوهم فإن أصبتم منهم طرفاً أنكتموهم عن العراق أبدا ما بقوا.
ثم سكت عنهم رجاء أن يجيبوه أو يتكلم منهم متكلم، فلم ينبس أحد منهم بكلمة، فلما رأى صمتهم نزل وخرج يمشي حتى أتى النخيلة والناس خلفه حتى أحاط به القوم من أشرافهم، فقالوا: ارجع يا أمير المؤمنين: نحن نكفيك فقال: ما تكفونني، ولا تكفون أنفسكم!! فلم يزالوا به حتى صرفوه إلى منزله، فرجع وهو واجم ـ ساكت ـ كئيب، ودعى سعيد بت قيس الهمداني.
فبعثه من النخيلة في ثمانية آلاف وذلك أنه أخبر أن القوم جاءوا في جمع كثيف فخرج سعيد بن قيس على شاطئ الفرات في طلب سفيان بن عوف حتى إذا بلغ عانات سرح أمامه هاني بن الخطاب الهمداني فاتبع آثارهم حتى أدنى قنسرين، فقد فاتوه فانصرف.
ولبث الإمام (عليه السلام) ترى فيه الكآبة والحزن حتى قدم سعيد بن قيس، وكان (عليه السلام) تلك الأيام عليلا، فلم يقو على القيام في الناس بما يريده من القول، فجلس بباب السدة التي تصل إلى المسجد، ومعه ابناه الحسن والحسين (عليهما السلام) وعبد الله بن جعفر، ودعا سعدا مولاه فدفع إليه الكتاب وأمره أن يقرأ على الناس، فقام سعد بحيث يستمع أمير المؤمنين صوته، ثم قرأ الخطبة: أما بعد: فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل، وشملة البلاء، وديث بالصغار والقمار، وضرب على قلبه بالأسداد وأديل الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف، ومنع النصف.
ألا:وإني قد دعوتكم إلى قتال القوم ليلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً، وقلت لكم: أغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا.
فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنت عليكم الغارات وملكت عليكم الأوطان، وهذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار وقد قتل حسان البكري وأزال خيلكم عن مسالحها.
ولقد بلغني: أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع منها حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلا منهم كلم ولا أريق لهم دم، فلو أن امرءً مسلما مات بعد هذا أسفا ما كان به ملوما، بل كان به عندي جديرا.
فيا عجباً، عجباً والله يميت القلب، ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، فقبحا لكم وترحا! حين صرتم غرضا يرمى! يغار عليكم ولا تغيرون وتغزون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم: هذه حمارة القيظ أمهلنا يسبخ عنا الحر.
وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارة القر أمهلنا ينسلخ عنا البرد.
كل هذا فرارا من الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون فأنتم والله من السيف أفر.
يا أشباه الرجال ولا رجال! حلوم الأطفال! وعقول ربات الحجال! لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة ـ والله ـ جرت ندما وأعقبت سدماً! قاتلكم الله! لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظا، وجرعتموني نغب التهمام علي أنفاسا، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان، حتى قالت قريش: إن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب!! لله أبوهم! وهل أحد منهم أشد مراساً وأقدم فيها مقاماً مني؟ ولقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا ذا قد ذرفت على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع!!.
الغارة الثانية
وهذه جناية أخرى قام بها أحد عملاء معاوية وهو بسر بن أرطأة أو ابن أبي أرطأة.
روى ابن أبي الحديد: أن قوماً بصنعاء ـ اليمن ـ كانوا من أتباع عثمان يعظمون قتله، لم يكن لهم نظام ولا رأس، فبايعوا لعلي (عليه السلام) على ما في أنفسهم، وعامل أمير المؤمنين على صنعاء يومئذ عبيد الله بن العباس وعامله على الجند سعيد بن نمران، فلما اختلف الناس على علي (عليه السلام) بالعراق وقتل محمد بن أبي بكر بمصر، وكثرت غارات أهل الشام، تكلموا ودعوا إلى الطلب بدم عثمان، فبلغ ذلك عبيد الله بن العباس فأرسل إلى الناس من وجوههم، ما هذا الذي بلغني عنكم؟ قالوا: إنا نفكر في قتل عثمان، ونرى مجاهدة من سعى عليه.
فحبسهم، فكتبوا إلى من في الجند من أصحابهم فساروا بسعيد بن نمران وأخرجوه من الجند، وأظهروا أمرهم، وخرج إليهم من كان بصنعاء وانضم إليهم كل من كان على رأيهم، ولحق بهم قوم لم يكونوا على رأيهم، إرادة أن يمنعوا الصدقة، فالتقى عبيد الله بن العباس يسعيد بن نمران ومعهما شيعة علي (عليه السلام)، فقال ابن العباس لابن نمران: والله لقد اجتمع هؤلاء، وإنهم لنا لمقاربون وإن قاتلناهم لا نعلم على من تكون الدائرة؟ فهلم لنكتب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) بخبرهم.
فكتب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام): أما بعد.
فإنا نخبر أمير المؤمنين أن أتباع عثمان وثبوا بنا، وأظهروا أن معاوية قد شيد أمره، واتسق له أكثر الناس وإنا سرنا بشيعة أمير المؤمنين، ومن كان على طاعته، إلخ.
فلما وصل كتابهما ساء عليا (عليه السلام) وأغضبه، وكتب إليهما: من علي أمير المؤمنين إلى عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران.
سلام الله عليكما، فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد.
فإنه لما أتاني كتابكما تذكران فيه خروج هذه الخارجة وتعظمان من شأنها صغيرا، وتكثران من عددها قليلا، وقد علمت أن نخب ـ جبن ـ أفئدتكما وصغر أنفسكما، وشتات رأيكما وسوء تدبيركما هو الذي أفسد عليكما من كان عن لقائكما جبانا، فإذا قام رسولي عليكما فامضيا إلى القوم حتى تقرئا عليهم كتابي إليهم، وتدعواهم إلى حظهم، وتقوى ربهم، فإن أجابوا حمدنا الله وقبلناهم، وإن حاربوا استعنا بالله عليهم ونابذناهم على سواء إن الله لا يحب كيد الخائنين.
فكتب (عليه السلام): من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من شاق وغدر من أهل الجند وصنعاء.
أما بعد: فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، الذي لا يعقب له حكم ولا يرد له قضاء، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين، وقد بلغني تجرؤكم وشقاؤكم وإعراضكم عن ديتكم بعد الطاعة، وإعطاء البيعة، فسألت أهل الدين الخالص والورع الصادق واللب الراجح عن بدء مخرجكم وما نويتم به وما أحمشكم له فحدثت عن ذلك بما لم أر لكم في شيء عذرا منه مبينا، ولا مقالا جميلا ولا حجة ظاهرة، فإذا أتاكم رسولي فتفرقوا، وانصرفوا إلى رحابكم، أعف عنكم، وأصفح عن جاهلكم وأحفظ قاصيكم، وأعمل فيكم بحكم الكتاب، فإن لم تفعلوا فاستعدوا لقدوم جيش جم الفرسان، عظيم الأركان يقصد لمن طغى وعصى، فتظحنوا كطحن الرحى، فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد.
وأرسل الكتاب مع رجل من همدان، فقدم عليهم بالكتاب، فلم يجيبوه إلى خير، فقال لهم: إني تركت أمير المؤمنين يريد أن يوجه إليكم يزيد بن قيس الأرحبي في جيش كثيف، فلم يمنعه إلا انتظار جوابكم.
فقالوا: نحن سامعون إن عزل عنا هذين الرجلين عبيد الله وسعيدا.
فرجع الهمداني إلى علي (عليه السلام) فأخبره خبر القوم، وكتبت تلك العصابة حينئذ إلى معاوية يخبرونه، فلما قدم كتابهم دعا معاوية بسر بن أرطأة، وكان قاسي القلب، فظا سفاكا للدماء، لا رأفة عنده ولا رحمة فأمره أن يأخذ طريق الحجاز ومكة حتى ينتهي إلى اليمن، وقال له: لا تنزل على بلد على طاعة علي إلا بسطت عليهم لسانك حتى يروا أنهم لا نجاة لهم، وأنك محيط بهم ثم اكفف عنهم، وادعهم إلى البيعة لي! فمن أبى فاقتله، واقتل شيعة علي حيث كانوا!! سار بسر بن أرطأة في ثلاثة آلاف، وكان إذا وردوا ماء أخذوا إبل أهل ذلك الماء فركبوها، وقادوا خيولهم حتى يردوا الماء الآخر فيردون تلك الإبل، وبركبون إبل هؤلاء لئلا يصل الخبر إلى البلاد التي يقصدونها فلم يزل يصنع ذلك حتى قرب المدينة فاستقبلتهم قضاعة ينحرون لهم الجزر حتى دخلوا المدينة، وعامل علي (عليه السلام) على المدينة يومئذ: أبو أيوب الأنصاري صاحب منزل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فخرج عنها هاربا، ودخل بسر المدينة فخطب الناس وشتمهم وتهددهم يومئذ وتوعدهم، وقال: شاهت الوجوه، إن الله تعالى ضرب مثلا: (قرية كانت آمنة مطمئنة، يأتيها رزقها رغدا فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف)(1).
وقد أوقع الله تعالى ذلك المثل بكم وجعلكم أهله، كان بلدكم مهاجر النبي ومنزله، وفيه قبره ومنازل الخلفاء من بعده، فلم تشكروا نعمة ربكم ولم ترعوا حق نبيكم، وقتل خليفة الله بين أظهركم، فكنتم بين قاتل وخاذل، ومتربص وشامت، إن كان للمؤمنين قلتم: ألم نكن معكم؟! وإن كان للكافرين نصيب قلتم: ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين؟!.
ثم شتم الأنصار فقال: يا معشر اليهود! وأبناء بني زريق! وبني النجار، وبني سالم وبني عبد الأشهل! والله لأوقعكن بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين، وآل عثمان، أما والله لأدعنكم أحاديث كالأمم السالفة!!.
فتهددهم حتى خاف الناس أن يوقع بهم، ففزعوا إلى حويطب بن عبد العزى، ويقال إنه زوج أمه.
فصعد إليه المنبر وناشده، وقال: عترتك وأنصار رسول الله، وليست بقتلة عثمان.
فلم يزل به حتى سكن ودعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه ونزل، فأحرق دورا كثيرة.
منها دار زرارة بن حرون، ودار أبي أيوب الأنصاري، وفقد جابر بن عبد الله الأنصاري فقال: ما لي لا أرى جابرا؟ يا بني سلمة.
لا أمان لكم عندي أو أن تأتوني بجابر.
فعاذ جابر بأم سلمة زوجة النبي، فأرسلت إلى بسر بن أرطأة فقال: لا آمنه حتى يبايع.
فقالت أم سلمة اذهب فبايع.
وقالت لابنها عمر:اذهب فبايع، فذهبا فبايعاه.
ثم خرج إلى مكة، فلما قرب منها هرب قثم بن العباس، وكان عامل علي (عليه السلام) ودخلها بسر، فشتم أهل مكة وأنبهم، ثم خرج عنهم واستعمل عليهم شيبة بن عثمان، وفي طريقه من المدينة قتل رجالا وأخذ أموالا، ثم دخل الطائف وشتم وقتل، ثم دخل نجران وشتم وقتل، حتى دخل صنعاء، وقد خرج عنها عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران، وقد استخلف عبيد الله عليها عمرو بن أراكة، فمنع بسرا عن دخولها، وقاتله فقتله بسر ودخل صنعاء فقتل منها قوما، وأتاه وفد مأرب فقتلهم فلم ينج منهم إلا رجل واحد.
ثم خرج بسر من صنعاء، فأتى أهل جلسان وهم شيعة علي (عليه السلام) فقاتلهم وقاتلوه فهزمهم، وقتلهم قتلا ذريعا، ثم رجع إلى صنعاء فقتل بها مائة شيخ من أبناء فارس، لأن ابني عبيد الله بن العباس كانا مستترين في بيت إمرأة من أبنائهم وذبح بسر ابني عبيد الله بمدية كانت معه، (وكانا طفلين صغيرين وهما: عبد الرحمن وقثم) فلما أراد ذبحهما قيل: وكانا عند رجل من بني كنانة، فقال له الكناني: ولم تقتل هذين ولا ذنب لهما؟ فإن كنت قاتلهما فاقتلني معهما.
قال: أفعل.
فقتله، ثم ذبحهما (!!)، فخرجت نسوة من بني كنانة، فقالت إمرأة: يا هذا قتلت الرجال فعلام تقتل هذين؟ والله ما كانوا يقتلون في الجاهلية والإسلام!!
والله يا بن أرطأة إن سلطانا لا يقوم إلا بقتل الصبي الصغير، والشيخ الكبير، ونزع الرحمة، وعقوق الأرحام لسطان سوء!! فلما سمعت أم الطفلين خبر ذبح ولديها أصابها وله على ابنيها، فكانت لا تعقل ولا تصغي إلا قول من أعلمها أنهما قد قتلا، ولا تزال تطوف في الموسم تنشد الناس ابنيها بهذه الأبيات:
ها من أحس بابني اللذين هـــــما كالـــــدرتين تشظي عنهما الصدف
يا من أحس بابني اللذين هــــــما سمــــــــــعي وقلبي اليوم مردهف
يا من أحس بابني اللذين هــــــما مـــــخ العظام فمخي اليوم مختطف
نبئت بسرا وما صدقت ما زعموا من قولهم، ومن الإفك الذي اقترفوا
أنحى على ودجي ابني مــــرهفة مشـــــــحوذة، وكذاك الإفك يقترف
حتى لقيت رجالاً من أرومـــــــته شم الأنـــــــــوف في قومهم شرف
فالآن ألعن بسراً حق لعـــــــــنته هذا لعمر أبـــــــي بسر هو السرف
من دل والهة حرى مولـــــــــهة على حبيبين ضـــلا إذ غدى السلف
ولما بلغت هذه الأخبار إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) جزع جزعا شديدا، ودعا على بسر لعنه الله وقال: اللهم أسلبه دينه، ولا تخرجه من الدنيا حتى تسلبه عقله.
فأصابه ذلك وفقد عقله، وكان يهذي بالسيف ويطلبه فيؤتى بسيف من خشب ويجعل بين يديه زق منفوخ، فلا يزال يضربه حتى يسأم أو يغشى عليه إلى أن مات عليه لعنة الله.
وبلغ عدد القتلى الذين قتلهم بسر في الحجاز واليمن ثلاثين ألفا، سوى الذين أحرقهم بالنار، وعدا الدور التي هدمها.
والخطب الأفظع الذي ارتكبه عميل معاوية بسر بن أرطأة هم أنه لما أغار على قبيلة همدان، وهم شيعة علي أمير المؤمنين (عليه السلام): قتل رجالهم وسبى نساءهم، فكن أول مسلمات سبين في الإسلام، ولقد أشار سيدنا أبو ذر الغفاري إلى هذه الجناية التي تقشعر منها الجلود جلود أهل الغيرة والحمية والإيمان ـ بقوله: وأما يوم العورة: فإن نساء من المسلمات يسبين، فيكشف عن سوقهن ـ جمع ساق ـ فأيتهن كانت أعظم ساقا اشتريت على عظم ساقها، فدعوت الله أن لا يدركني هذا الزمان.
فصدرت هذه الجناية من بسر بن أرطأة.
أنه بعد أن سبي نساء الشيعة من همدان وذهب بهم إلى الشام فأقامهن في السوق، وعرضهن للبيع كما ذكرنا.
ووصلت هذه الأخبار الفجيعة إلى أمير المؤمنين وهو في الكوفة وكان (عليه السلام) يجلس كل يوم في موضع من المسجد الأعظم يسبح به بعد الغداة إلى طلوع الشمس، فلما طلعت نهض إلى المنبر فضرب بإصبعيه على راحته وهو يقول: ما هي إلا الكوفة، ما هي إلا الكوفة، أقبضها وأبسطها، إن لم تكوني إلا أنت، تهب أعاصيرك، فقبحك الله، ثم تمثل بقول الشاعر:
لعمر أبيك الخير يا عمرو: إنني على وضر من ذا الإناء قليل
ثم قال:
أنبئت بسرا قد اطلع على اليمن، وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعتهم إمامهم في الباطل وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم صاحبكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم، فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته: اللهم: إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيرا منهم، وأبدلهم شرا مني، اللهم مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء.
أما والله لوددت أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم:
هنالك لو دعوت أتاك منهم فوارس مثل أرمية الحميم
ثم نزل (عليه السلام) من المنبر.
الغارة الثالثة
ذكر ابن أبي الحديد أنه أرسل معاوية النعمان بن بشير وآبا هريرة إلى أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام يسألانه أن يدفع قتلة عثمان إلى معاوية ليقتص منهم، لعل الحرب أن تطفأ ويصطلح الناس، وإنما أراد معاوية أن يرجع مثل النعمان وأبي هريرة من عند علي (عليه السلام) وهم لمعاوية عاذرون ولعلي لائمون، لأن معاوية كان يعلم أن عليا لا يدفع قتلة عثمان إليه، فأراد أن يكون هذان يشهدان له عند أهل الشام بذلك، وأن يظهر عذره.
فقال لهما معاوية: ائتيا عليا فانشداه الله وسلاه (اسألاه) بالله لما دفع إلينا قتلة عثمان، فإنه قد آواهم أو منعهم، ثم لا حرب بيننا وبينه، فإن أبى فكونوا شهداء لي عليه وأقبلا على الناس وأعلماهم ذلك.
فأتيا عليا (عليه السلام) فدخلا عليه فقال أبو هريرة: يا أبا الحسن، إن الله قد جعل لك في الإسلام فضلا وشرفا: أنت ابن عم محمد رسول الله وقد بعثنا إليك ابن عمك معاوية يسألك أمرا تسكن به هذه الحرب، ويصلح الله تعالى به ذات البين.
أن تدفع إليه قتلة عثمان ابن عمه فيقتلهم به، ويجمع الله تعالى أمرك وأمره، ويصلح بينكم وتسلم هذه الأمة من الفتنة والفرقة.
ثم تكلم النعمان بنحو من هذا، فقال (عليه السلام): دعا الكلام في هذا، حدثني يا نعمان: أنت أهدى قومك سبيلا؟ (يعني الأنصار) فقال: لا.
قال فكل قومك تبعني إلا شذاذ منهم ثلاثة أو أربعة أفتكون أنت من الشذاذ؟ فقال النعمان: أصلحك الله إنما جئت لأكون معك وألزمك، وقد كان معاوية سألني أن أؤدي هذا الكلام، ورجوت أن يكون لي موقف أجتمع فيه معك، وطمعت أن يجري الله بينكما صلحا، فإذا كان غير هذا رأيك فأنا ملازم وكائن معك.
فأما أبو هريرة فلحق بالشام، وأقام النعمان عند علي (عليه السلام)، فأخبر أبو هريرة معاوية بالخبر فأمره أن يعلم الناس ففعل، وأقام النعمان بعده، ثم خرج فارا من علي (عليه السلام) حتى إذا مر بعين التمر، أخذه مالك بن كعب الأرحبي وكان عامل علي عليها، فأراد حبسه وقال له: ما مر بك هيهنا؟ قال: إنما أنا رسول، بلغت رسالة صاحبي ثم انصرفت.
فحبسه مالك وقال: كما أنت حتى أكتب إلى علي فيك.
فناشده، وعظم عليه أن يكتب إلى علي فيه، فأرسل النعمان إلى قرطة بن كعب الأنصاري وهو كاتب عين التمر يجبي خراجها لعلي (عليه السلام)، فجاءه مسرعا فقال لمالك: خل سبيل ابن عمي يرحمك الله.
فقال يا قرطة اتق الله ولا تتكلم في هذا فإنه إن كان من عباد الأنصار ونساكهم كيف يهرب من أمير المؤمنين إلى أمير المنافقين؟.
فلم يزل يقسم عليه حتى خلى سبيله وقال له: يا هذا الأمان اليوم والليلة وغدا، والله لئن أدركتك بعدها لأضربن عنقك.
فخرج مسرعا لا يلوي على شيء، وذهبت به راحلته فلم يدر أين تتئكع من الأرض ثلاثة أيام لا يعلم أين هو، ثم قدم إلى معاوية فخبره بما لقي، ولم يزل معه مصاحبا له، يجاهد عليا ويتبع قتلة عثمان حتى غزى الضحاك بن قيس أرض العراق ثم انصرف إلى معاوية، فقال معاوية: أما من رجل أبعث معه بجريدة خيل حتى يغير على شاطئ الفرات فإن الله يرعب بها أهل العراق؟ فقال له النعمان: فابعثني فإن لي في قتالهم نية وهوى ـ وكان النعمان عثمانيا ـ قال: فانتدب على اسم الله.
فانتدب وندب معه ألفي رجل وأوصاه أن يتجنب المدن والجماعات، وأن لا يغير إلا على مسلحة، وأن يعجل الرجوع.
فأقبل النعمان حتى دنى من عين التمر، وبها مالك بن كعب الأرحبي الذي جرى له ما ذكرناه ومع مالك ألف رجل، وقد أذن لهم، فقد رجعوا إلى الكوفة، فلم يبق معه إلا مائة أو نحوها، فكتب مالك إلى علي (عليه السلام): أما بعد: فإن النعمان بن بشير قد نزل بي في جمع كثيف، فمر رأيك سددك الله تعالى وثبتك والسلام.
فوصل الكتاب إلى علي (عليه السلام)، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أخرجوا هداكم الله إلى مالك بن كعب أخيكم، فإن النعمان بن بشير قد نزل في جمع من أهل الشام ليس بالكثير فانهضوا إلى إخوانكم لعل الله يقطع بكم من الكافرين طرفا.
ثم نزل، فلم يخرجوا، فأرسل إلى وجوههم وكبرائهم فأمر أن ينهضوا ويحثوا الناس على المسير فلم يصنعوا شيئا.
واجتمع منهم نفر يسير نحو ثلاثمائة فارس أو دونها فقام (عليه السلام) فقال: (منيت بمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت، لا أباً لكم ما تنتظرون بنصركم ربكم؟ أما دين يجمعكم؟ ولا حمية تحمشكم؟ أقوم فيكم مستصرخا، وأناديكم متغوثا فلا تسمعون لي قولا، ولا تطيعون لي أمرا، حتى تكشف الأمور عن عواقب المساءة، فما يدرك بكم ثأر، ولا يبلغ بكم مرام، دعوتكم إلى نصرة إخوانكم، فجرجرتم جرجرة الجمل الأسر، وتثاقلتم تثاقل الأدبر، ثم خرج إلي منكم جنيد متذائب ضعيف كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون).
(1) سورة النحل، الآية: 112.
لما وقع التحكيم في صفين وحصل الانشقاق والافتراق في أصحاب الإمام وتكونت الخوارج انتهز معاوية الفرصة فكان يرسل الجيوش إلى بلاد الإمام (عليه السلام) ويفتك بالناس ويهاجمهم غدرا وصبرا.
وقد تكررت منه هذه الجريمة والجناية، ونقتطف ثلاث غارات شنها معاوية على المسلمين وأقام المجازر والمذابح وبلغ أقصى مراتب القساوة والوحشية والهمجية، نذكر لكم كل غارة بشيء من التفصيل:
الغارة الأولى
روى ابن أبي الحديد عن ابن الكنوز قال: حدثني سفيان بن عوف الغامدي قال: دعاني معاوية فقال: إني باعثك في جيش ذي أداة وجلادة، فالزم لي جانب الفرات حتى تمر بـ(هيت) فتقطعها، فإن وجدت بها جندا فأغِر عليهم، وإلا فامض حتى تغير على الأنبار، فإن لم تجد بها جندا فامض حتى توغل المدائن ثم أقبل إلي: واتق أن تقرب الكوفة ـ واعلم: أنك إن أغرت على الأنبار وأهل المدائن فكأنك أغرت على الكوفة ـ إن هذه الغارات يا سفيان: على أهل العرق ترعب قلوبهم وتفرح كل من له فينا هوى منهم، وتدعو إلينا كل من خاف الدوائر، فاقتل من لقيته ممن ليس هو على مثل رأيك، واخرب كل ما مررت به من القرى، وصرب الأموال شبيه بالقتل، وهو أوجع للقلب.
هذه وصايا معاوية، هكذا يأمر عميله بالقتل والحرق والهدم والسلب والنهب بقوم مسلمين مؤمنين، ومع ذلك هو أمير المؤمنين!! قال سفيان: فخرجت من عنده فعسكرت، وقام معاوية في الناس فخطبهم فقال: أيها الناس، انتدبوا مع سفيان بن عوف فإنه وجه عظيم فيه أجر، سريعة فيه أوبتكم إن شاء الله.
ثم نزل.
فوالله الذي لا إله غيره ما مرت ثالثة حتى خرجت في ستة آلاف، ثم لزمت شاطئ الفرات، فأغذذت (أسرعت) السير حتى أمر بهيت فبلغهم أني قد غشيتهم فقطعوا الفرات فمررت بها وما بها غريب، كأنها لم تحلل قط، فوطأتها حتى أمر بصدوراء ففروا، فلم ألق بها أحدا، فأمضي حتى أفتتح الأنبار، وقد أنذروا بي، فخرج صاحب المسلحة إلي، فوقف فلم أقدم عليه حتى أخذت غلمانا من أهل القرية فقلت لهم: أخبروني كم بالأنبار من أصحاب علي؟ قالوا: عدة رجال المسلحة خمسمائة، ولكنهم تبددوا ورجعوا إلى الكوفة، ولا ندري الذي يكون فيها، قد يكون مائتي رجل.
فنزلت فكتبت أصحابي كتائب، ثم أخذت أبعثهم إليه كتيبة بعد كتيبة، فيقاتلهم والله ويصبر لهم ويطاردهم، ويطاردونه في الأزقة، فلما رأيت ذلك أنزلت إليهم نحوا من مأتين، وأتبعتهم الخيل، فلما حملت الخيل وأمامها الرجال تمشي لم يكن شيء حتى تفرقوا، وقتل صاحبهم في نحو ثلاثين رجلا، وحملنا ما كان من الأنبار من الأموال، ثم انصرفت، فوالله ما غزوت غزاة كانت أسلم ولا أقر للعيون، ولا أسر للنفوس منها وبلغني أنها رعبت الناس، فلما عدت إلى معاوية حدثته الحديث على وجهه فقال: كنت عند ظني بك.
ولا تنزل في بلد من بلداني إلا قضيت فيه مثل ما يقضي فيه أميره، وإن أحببت تولية وليتك، وليس لأحد من خلق الله عليك أمر دوني...الخ.
وصلت هذه الأخبار إلى الإمام (عليه السلام) فصعد المنبر فخطب الناس وقال: إن أخاكم البكري ـ عامل الأنبار ـ قد أصيب، وهو اختار ما عند الله على الدنيا فانتدبوا إليهم حتى تلاقوهم فإن أصبتم منهم طرفاً أنكتموهم عن العراق أبدا ما بقوا.
ثم سكت عنهم رجاء أن يجيبوه أو يتكلم منهم متكلم، فلم ينبس أحد منهم بكلمة، فلما رأى صمتهم نزل وخرج يمشي حتى أتى النخيلة والناس خلفه حتى أحاط به القوم من أشرافهم، فقالوا: ارجع يا أمير المؤمنين: نحن نكفيك فقال: ما تكفونني، ولا تكفون أنفسكم!! فلم يزالوا به حتى صرفوه إلى منزله، فرجع وهو واجم ـ ساكت ـ كئيب، ودعى سعيد بت قيس الهمداني.
فبعثه من النخيلة في ثمانية آلاف وذلك أنه أخبر أن القوم جاءوا في جمع كثيف فخرج سعيد بن قيس على شاطئ الفرات في طلب سفيان بن عوف حتى إذا بلغ عانات سرح أمامه هاني بن الخطاب الهمداني فاتبع آثارهم حتى أدنى قنسرين، فقد فاتوه فانصرف.
ولبث الإمام (عليه السلام) ترى فيه الكآبة والحزن حتى قدم سعيد بن قيس، وكان (عليه السلام) تلك الأيام عليلا، فلم يقو على القيام في الناس بما يريده من القول، فجلس بباب السدة التي تصل إلى المسجد، ومعه ابناه الحسن والحسين (عليهما السلام) وعبد الله بن جعفر، ودعا سعدا مولاه فدفع إليه الكتاب وأمره أن يقرأ على الناس، فقام سعد بحيث يستمع أمير المؤمنين صوته، ثم قرأ الخطبة: أما بعد: فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل، وشملة البلاء، وديث بالصغار والقمار، وضرب على قلبه بالأسداد وأديل الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف، ومنع النصف.
ألا:وإني قد دعوتكم إلى قتال القوم ليلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً، وقلت لكم: أغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا.
فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنت عليكم الغارات وملكت عليكم الأوطان، وهذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار وقد قتل حسان البكري وأزال خيلكم عن مسالحها.
ولقد بلغني: أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع منها حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلا منهم كلم ولا أريق لهم دم، فلو أن امرءً مسلما مات بعد هذا أسفا ما كان به ملوما، بل كان به عندي جديرا.
فيا عجباً، عجباً والله يميت القلب، ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، فقبحا لكم وترحا! حين صرتم غرضا يرمى! يغار عليكم ولا تغيرون وتغزون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم: هذه حمارة القيظ أمهلنا يسبخ عنا الحر.
وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارة القر أمهلنا ينسلخ عنا البرد.
كل هذا فرارا من الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون فأنتم والله من السيف أفر.
يا أشباه الرجال ولا رجال! حلوم الأطفال! وعقول ربات الحجال! لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة ـ والله ـ جرت ندما وأعقبت سدماً! قاتلكم الله! لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظا، وجرعتموني نغب التهمام علي أنفاسا، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان، حتى قالت قريش: إن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب!! لله أبوهم! وهل أحد منهم أشد مراساً وأقدم فيها مقاماً مني؟ ولقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا ذا قد ذرفت على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع!!.
الغارة الثانية
وهذه جناية أخرى قام بها أحد عملاء معاوية وهو بسر بن أرطأة أو ابن أبي أرطأة.
روى ابن أبي الحديد: أن قوماً بصنعاء ـ اليمن ـ كانوا من أتباع عثمان يعظمون قتله، لم يكن لهم نظام ولا رأس، فبايعوا لعلي (عليه السلام) على ما في أنفسهم، وعامل أمير المؤمنين على صنعاء يومئذ عبيد الله بن العباس وعامله على الجند سعيد بن نمران، فلما اختلف الناس على علي (عليه السلام) بالعراق وقتل محمد بن أبي بكر بمصر، وكثرت غارات أهل الشام، تكلموا ودعوا إلى الطلب بدم عثمان، فبلغ ذلك عبيد الله بن العباس فأرسل إلى الناس من وجوههم، ما هذا الذي بلغني عنكم؟ قالوا: إنا نفكر في قتل عثمان، ونرى مجاهدة من سعى عليه.
فحبسهم، فكتبوا إلى من في الجند من أصحابهم فساروا بسعيد بن نمران وأخرجوه من الجند، وأظهروا أمرهم، وخرج إليهم من كان بصنعاء وانضم إليهم كل من كان على رأيهم، ولحق بهم قوم لم يكونوا على رأيهم، إرادة أن يمنعوا الصدقة، فالتقى عبيد الله بن العباس يسعيد بن نمران ومعهما شيعة علي (عليه السلام)، فقال ابن العباس لابن نمران: والله لقد اجتمع هؤلاء، وإنهم لنا لمقاربون وإن قاتلناهم لا نعلم على من تكون الدائرة؟ فهلم لنكتب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) بخبرهم.
فكتب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام): أما بعد.
فإنا نخبر أمير المؤمنين أن أتباع عثمان وثبوا بنا، وأظهروا أن معاوية قد شيد أمره، واتسق له أكثر الناس وإنا سرنا بشيعة أمير المؤمنين، ومن كان على طاعته، إلخ.
فلما وصل كتابهما ساء عليا (عليه السلام) وأغضبه، وكتب إليهما: من علي أمير المؤمنين إلى عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران.
سلام الله عليكما، فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد.
فإنه لما أتاني كتابكما تذكران فيه خروج هذه الخارجة وتعظمان من شأنها صغيرا، وتكثران من عددها قليلا، وقد علمت أن نخب ـ جبن ـ أفئدتكما وصغر أنفسكما، وشتات رأيكما وسوء تدبيركما هو الذي أفسد عليكما من كان عن لقائكما جبانا، فإذا قام رسولي عليكما فامضيا إلى القوم حتى تقرئا عليهم كتابي إليهم، وتدعواهم إلى حظهم، وتقوى ربهم، فإن أجابوا حمدنا الله وقبلناهم، وإن حاربوا استعنا بالله عليهم ونابذناهم على سواء إن الله لا يحب كيد الخائنين.
فكتب (عليه السلام): من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من شاق وغدر من أهل الجند وصنعاء.
أما بعد: فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، الذي لا يعقب له حكم ولا يرد له قضاء، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين، وقد بلغني تجرؤكم وشقاؤكم وإعراضكم عن ديتكم بعد الطاعة، وإعطاء البيعة، فسألت أهل الدين الخالص والورع الصادق واللب الراجح عن بدء مخرجكم وما نويتم به وما أحمشكم له فحدثت عن ذلك بما لم أر لكم في شيء عذرا منه مبينا، ولا مقالا جميلا ولا حجة ظاهرة، فإذا أتاكم رسولي فتفرقوا، وانصرفوا إلى رحابكم، أعف عنكم، وأصفح عن جاهلكم وأحفظ قاصيكم، وأعمل فيكم بحكم الكتاب، فإن لم تفعلوا فاستعدوا لقدوم جيش جم الفرسان، عظيم الأركان يقصد لمن طغى وعصى، فتظحنوا كطحن الرحى، فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد.
وأرسل الكتاب مع رجل من همدان، فقدم عليهم بالكتاب، فلم يجيبوه إلى خير، فقال لهم: إني تركت أمير المؤمنين يريد أن يوجه إليكم يزيد بن قيس الأرحبي في جيش كثيف، فلم يمنعه إلا انتظار جوابكم.
فقالوا: نحن سامعون إن عزل عنا هذين الرجلين عبيد الله وسعيدا.
فرجع الهمداني إلى علي (عليه السلام) فأخبره خبر القوم، وكتبت تلك العصابة حينئذ إلى معاوية يخبرونه، فلما قدم كتابهم دعا معاوية بسر بن أرطأة، وكان قاسي القلب، فظا سفاكا للدماء، لا رأفة عنده ولا رحمة فأمره أن يأخذ طريق الحجاز ومكة حتى ينتهي إلى اليمن، وقال له: لا تنزل على بلد على طاعة علي إلا بسطت عليهم لسانك حتى يروا أنهم لا نجاة لهم، وأنك محيط بهم ثم اكفف عنهم، وادعهم إلى البيعة لي! فمن أبى فاقتله، واقتل شيعة علي حيث كانوا!! سار بسر بن أرطأة في ثلاثة آلاف، وكان إذا وردوا ماء أخذوا إبل أهل ذلك الماء فركبوها، وقادوا خيولهم حتى يردوا الماء الآخر فيردون تلك الإبل، وبركبون إبل هؤلاء لئلا يصل الخبر إلى البلاد التي يقصدونها فلم يزل يصنع ذلك حتى قرب المدينة فاستقبلتهم قضاعة ينحرون لهم الجزر حتى دخلوا المدينة، وعامل علي (عليه السلام) على المدينة يومئذ: أبو أيوب الأنصاري صاحب منزل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فخرج عنها هاربا، ودخل بسر المدينة فخطب الناس وشتمهم وتهددهم يومئذ وتوعدهم، وقال: شاهت الوجوه، إن الله تعالى ضرب مثلا: (قرية كانت آمنة مطمئنة، يأتيها رزقها رغدا فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف)(1).
وقد أوقع الله تعالى ذلك المثل بكم وجعلكم أهله، كان بلدكم مهاجر النبي ومنزله، وفيه قبره ومنازل الخلفاء من بعده، فلم تشكروا نعمة ربكم ولم ترعوا حق نبيكم، وقتل خليفة الله بين أظهركم، فكنتم بين قاتل وخاذل، ومتربص وشامت، إن كان للمؤمنين قلتم: ألم نكن معكم؟! وإن كان للكافرين نصيب قلتم: ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين؟!.
ثم شتم الأنصار فقال: يا معشر اليهود! وأبناء بني زريق! وبني النجار، وبني سالم وبني عبد الأشهل! والله لأوقعكن بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين، وآل عثمان، أما والله لأدعنكم أحاديث كالأمم السالفة!!.
فتهددهم حتى خاف الناس أن يوقع بهم، ففزعوا إلى حويطب بن عبد العزى، ويقال إنه زوج أمه.
فصعد إليه المنبر وناشده، وقال: عترتك وأنصار رسول الله، وليست بقتلة عثمان.
فلم يزل به حتى سكن ودعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه ونزل، فأحرق دورا كثيرة.
منها دار زرارة بن حرون، ودار أبي أيوب الأنصاري، وفقد جابر بن عبد الله الأنصاري فقال: ما لي لا أرى جابرا؟ يا بني سلمة.
لا أمان لكم عندي أو أن تأتوني بجابر.
فعاذ جابر بأم سلمة زوجة النبي، فأرسلت إلى بسر بن أرطأة فقال: لا آمنه حتى يبايع.
فقالت أم سلمة اذهب فبايع.
وقالت لابنها عمر:اذهب فبايع، فذهبا فبايعاه.
ثم خرج إلى مكة، فلما قرب منها هرب قثم بن العباس، وكان عامل علي (عليه السلام) ودخلها بسر، فشتم أهل مكة وأنبهم، ثم خرج عنهم واستعمل عليهم شيبة بن عثمان، وفي طريقه من المدينة قتل رجالا وأخذ أموالا، ثم دخل الطائف وشتم وقتل، ثم دخل نجران وشتم وقتل، حتى دخل صنعاء، وقد خرج عنها عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران، وقد استخلف عبيد الله عليها عمرو بن أراكة، فمنع بسرا عن دخولها، وقاتله فقتله بسر ودخل صنعاء فقتل منها قوما، وأتاه وفد مأرب فقتلهم فلم ينج منهم إلا رجل واحد.
ثم خرج بسر من صنعاء، فأتى أهل جلسان وهم شيعة علي (عليه السلام) فقاتلهم وقاتلوه فهزمهم، وقتلهم قتلا ذريعا، ثم رجع إلى صنعاء فقتل بها مائة شيخ من أبناء فارس، لأن ابني عبيد الله بن العباس كانا مستترين في بيت إمرأة من أبنائهم وذبح بسر ابني عبيد الله بمدية كانت معه، (وكانا طفلين صغيرين وهما: عبد الرحمن وقثم) فلما أراد ذبحهما قيل: وكانا عند رجل من بني كنانة، فقال له الكناني: ولم تقتل هذين ولا ذنب لهما؟ فإن كنت قاتلهما فاقتلني معهما.
قال: أفعل.
فقتله، ثم ذبحهما (!!)، فخرجت نسوة من بني كنانة، فقالت إمرأة: يا هذا قتلت الرجال فعلام تقتل هذين؟ والله ما كانوا يقتلون في الجاهلية والإسلام!!
والله يا بن أرطأة إن سلطانا لا يقوم إلا بقتل الصبي الصغير، والشيخ الكبير، ونزع الرحمة، وعقوق الأرحام لسطان سوء!! فلما سمعت أم الطفلين خبر ذبح ولديها أصابها وله على ابنيها، فكانت لا تعقل ولا تصغي إلا قول من أعلمها أنهما قد قتلا، ولا تزال تطوف في الموسم تنشد الناس ابنيها بهذه الأبيات:
ها من أحس بابني اللذين هـــــما كالـــــدرتين تشظي عنهما الصدف
يا من أحس بابني اللذين هــــــما سمــــــــــعي وقلبي اليوم مردهف
يا من أحس بابني اللذين هــــــما مـــــخ العظام فمخي اليوم مختطف
نبئت بسرا وما صدقت ما زعموا من قولهم، ومن الإفك الذي اقترفوا
أنحى على ودجي ابني مــــرهفة مشـــــــحوذة، وكذاك الإفك يقترف
حتى لقيت رجالاً من أرومـــــــته شم الأنـــــــــوف في قومهم شرف
فالآن ألعن بسراً حق لعـــــــــنته هذا لعمر أبـــــــي بسر هو السرف
من دل والهة حرى مولـــــــــهة على حبيبين ضـــلا إذ غدى السلف
ولما بلغت هذه الأخبار إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) جزع جزعا شديدا، ودعا على بسر لعنه الله وقال: اللهم أسلبه دينه، ولا تخرجه من الدنيا حتى تسلبه عقله.
فأصابه ذلك وفقد عقله، وكان يهذي بالسيف ويطلبه فيؤتى بسيف من خشب ويجعل بين يديه زق منفوخ، فلا يزال يضربه حتى يسأم أو يغشى عليه إلى أن مات عليه لعنة الله.
وبلغ عدد القتلى الذين قتلهم بسر في الحجاز واليمن ثلاثين ألفا، سوى الذين أحرقهم بالنار، وعدا الدور التي هدمها.
والخطب الأفظع الذي ارتكبه عميل معاوية بسر بن أرطأة هم أنه لما أغار على قبيلة همدان، وهم شيعة علي أمير المؤمنين (عليه السلام): قتل رجالهم وسبى نساءهم، فكن أول مسلمات سبين في الإسلام، ولقد أشار سيدنا أبو ذر الغفاري إلى هذه الجناية التي تقشعر منها الجلود جلود أهل الغيرة والحمية والإيمان ـ بقوله: وأما يوم العورة: فإن نساء من المسلمات يسبين، فيكشف عن سوقهن ـ جمع ساق ـ فأيتهن كانت أعظم ساقا اشتريت على عظم ساقها، فدعوت الله أن لا يدركني هذا الزمان.
فصدرت هذه الجناية من بسر بن أرطأة.
أنه بعد أن سبي نساء الشيعة من همدان وذهب بهم إلى الشام فأقامهن في السوق، وعرضهن للبيع كما ذكرنا.
ووصلت هذه الأخبار الفجيعة إلى أمير المؤمنين وهو في الكوفة وكان (عليه السلام) يجلس كل يوم في موضع من المسجد الأعظم يسبح به بعد الغداة إلى طلوع الشمس، فلما طلعت نهض إلى المنبر فضرب بإصبعيه على راحته وهو يقول: ما هي إلا الكوفة، ما هي إلا الكوفة، أقبضها وأبسطها، إن لم تكوني إلا أنت، تهب أعاصيرك، فقبحك الله، ثم تمثل بقول الشاعر:
لعمر أبيك الخير يا عمرو: إنني على وضر من ذا الإناء قليل
ثم قال:
أنبئت بسرا قد اطلع على اليمن، وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعتهم إمامهم في الباطل وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم صاحبكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم، فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته: اللهم: إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيرا منهم، وأبدلهم شرا مني، اللهم مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء.
أما والله لوددت أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم:
هنالك لو دعوت أتاك منهم فوارس مثل أرمية الحميم
ثم نزل (عليه السلام) من المنبر.
الغارة الثالثة
ذكر ابن أبي الحديد أنه أرسل معاوية النعمان بن بشير وآبا هريرة إلى أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام يسألانه أن يدفع قتلة عثمان إلى معاوية ليقتص منهم، لعل الحرب أن تطفأ ويصطلح الناس، وإنما أراد معاوية أن يرجع مثل النعمان وأبي هريرة من عند علي (عليه السلام) وهم لمعاوية عاذرون ولعلي لائمون، لأن معاوية كان يعلم أن عليا لا يدفع قتلة عثمان إليه، فأراد أن يكون هذان يشهدان له عند أهل الشام بذلك، وأن يظهر عذره.
فقال لهما معاوية: ائتيا عليا فانشداه الله وسلاه (اسألاه) بالله لما دفع إلينا قتلة عثمان، فإنه قد آواهم أو منعهم، ثم لا حرب بيننا وبينه، فإن أبى فكونوا شهداء لي عليه وأقبلا على الناس وأعلماهم ذلك.
فأتيا عليا (عليه السلام) فدخلا عليه فقال أبو هريرة: يا أبا الحسن، إن الله قد جعل لك في الإسلام فضلا وشرفا: أنت ابن عم محمد رسول الله وقد بعثنا إليك ابن عمك معاوية يسألك أمرا تسكن به هذه الحرب، ويصلح الله تعالى به ذات البين.
أن تدفع إليه قتلة عثمان ابن عمه فيقتلهم به، ويجمع الله تعالى أمرك وأمره، ويصلح بينكم وتسلم هذه الأمة من الفتنة والفرقة.
ثم تكلم النعمان بنحو من هذا، فقال (عليه السلام): دعا الكلام في هذا، حدثني يا نعمان: أنت أهدى قومك سبيلا؟ (يعني الأنصار) فقال: لا.
قال فكل قومك تبعني إلا شذاذ منهم ثلاثة أو أربعة أفتكون أنت من الشذاذ؟ فقال النعمان: أصلحك الله إنما جئت لأكون معك وألزمك، وقد كان معاوية سألني أن أؤدي هذا الكلام، ورجوت أن يكون لي موقف أجتمع فيه معك، وطمعت أن يجري الله بينكما صلحا، فإذا كان غير هذا رأيك فأنا ملازم وكائن معك.
فأما أبو هريرة فلحق بالشام، وأقام النعمان عند علي (عليه السلام)، فأخبر أبو هريرة معاوية بالخبر فأمره أن يعلم الناس ففعل، وأقام النعمان بعده، ثم خرج فارا من علي (عليه السلام) حتى إذا مر بعين التمر، أخذه مالك بن كعب الأرحبي وكان عامل علي عليها، فأراد حبسه وقال له: ما مر بك هيهنا؟ قال: إنما أنا رسول، بلغت رسالة صاحبي ثم انصرفت.
فحبسه مالك وقال: كما أنت حتى أكتب إلى علي فيك.
فناشده، وعظم عليه أن يكتب إلى علي فيه، فأرسل النعمان إلى قرطة بن كعب الأنصاري وهو كاتب عين التمر يجبي خراجها لعلي (عليه السلام)، فجاءه مسرعا فقال لمالك: خل سبيل ابن عمي يرحمك الله.
فقال يا قرطة اتق الله ولا تتكلم في هذا فإنه إن كان من عباد الأنصار ونساكهم كيف يهرب من أمير المؤمنين إلى أمير المنافقين؟.
فلم يزل يقسم عليه حتى خلى سبيله وقال له: يا هذا الأمان اليوم والليلة وغدا، والله لئن أدركتك بعدها لأضربن عنقك.
فخرج مسرعا لا يلوي على شيء، وذهبت به راحلته فلم يدر أين تتئكع من الأرض ثلاثة أيام لا يعلم أين هو، ثم قدم إلى معاوية فخبره بما لقي، ولم يزل معه مصاحبا له، يجاهد عليا ويتبع قتلة عثمان حتى غزى الضحاك بن قيس أرض العراق ثم انصرف إلى معاوية، فقال معاوية: أما من رجل أبعث معه بجريدة خيل حتى يغير على شاطئ الفرات فإن الله يرعب بها أهل العراق؟ فقال له النعمان: فابعثني فإن لي في قتالهم نية وهوى ـ وكان النعمان عثمانيا ـ قال: فانتدب على اسم الله.
فانتدب وندب معه ألفي رجل وأوصاه أن يتجنب المدن والجماعات، وأن لا يغير إلا على مسلحة، وأن يعجل الرجوع.
فأقبل النعمان حتى دنى من عين التمر، وبها مالك بن كعب الأرحبي الذي جرى له ما ذكرناه ومع مالك ألف رجل، وقد أذن لهم، فقد رجعوا إلى الكوفة، فلم يبق معه إلا مائة أو نحوها، فكتب مالك إلى علي (عليه السلام): أما بعد: فإن النعمان بن بشير قد نزل بي في جمع كثيف، فمر رأيك سددك الله تعالى وثبتك والسلام.
فوصل الكتاب إلى علي (عليه السلام)، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أخرجوا هداكم الله إلى مالك بن كعب أخيكم، فإن النعمان بن بشير قد نزل في جمع من أهل الشام ليس بالكثير فانهضوا إلى إخوانكم لعل الله يقطع بكم من الكافرين طرفا.
ثم نزل، فلم يخرجوا، فأرسل إلى وجوههم وكبرائهم فأمر أن ينهضوا ويحثوا الناس على المسير فلم يصنعوا شيئا.
واجتمع منهم نفر يسير نحو ثلاثمائة فارس أو دونها فقام (عليه السلام) فقال: (منيت بمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت، لا أباً لكم ما تنتظرون بنصركم ربكم؟ أما دين يجمعكم؟ ولا حمية تحمشكم؟ أقوم فيكم مستصرخا، وأناديكم متغوثا فلا تسمعون لي قولا، ولا تطيعون لي أمرا، حتى تكشف الأمور عن عواقب المساءة، فما يدرك بكم ثأر، ولا يبلغ بكم مرام، دعوتكم إلى نصرة إخوانكم، فجرجرتم جرجرة الجمل الأسر، وتثاقلتم تثاقل الأدبر، ثم خرج إلي منكم جنيد متذائب ضعيف كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون).
(1) سورة النحل، الآية: 112.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى