الليلة الخامسة عشرة علي (عليه السلام) في صفين
صفحة 1 من اصل 1
الليلة الخامسة عشرة علي (عليه السلام) في صفين
بسم الله الرحمن الرحيم
حديثنا الليلة حول الحرب الثانية التي وقعت في أيام أمير المؤمنين (عليه السلام) وهي واقعة صفين، تلك المجزرة الرهيبة، التي تقشعر الجلود من استماع الحوادث، والفجائع التي وقعت في تلك المعركة، وضياع الحق وغلبة الباطل عن طريق الخدعة والغدر والمكر والتزوير، وتتجلى صحيفة أمير المؤمنين نقية بيضاء متلألئة، وتتمثل فيها العدالة والتقوى والورع، نذكرها في صورة موجزة: لما انتهت غزوة الجمل في البصرة ووضعت الحرب أوزارها، ورجع الإمام (عليه السلام) إلى الكوفة مظفرا منصورا، بعث كتابا إلى معاوية يأمره بأخذ البيعة له (عليه السلام)، وبعث الكتاب بيد رجل إلى الشام، وجمع معاوية بعض مشاهير الشام وأمرهم بإشاعة هذا الخبر وإذاعته فيما بين الناس: (أن عليا قتل عثمان، ومعاوية ولي دم عثمان، فيجب الطلب بثأر عثمان ودمه)9 وأعانه على هذه الفكرة عمرو بن العاص واشترط على معاوية أنه إذا بايعه وأعانه على حرب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وأخرجوا مصر من تحت سلطة أمير المؤمنين (عليه السلام) يكون عمرو بن العاص والياً وأميراً على مصر، فبايعه على ذلك وبايع أهل الشام معاوية أيضا.
فنهض معاوية بجيشه الجرار وأقبل إلى (صفين)، وهو اسم أرض كبيرة واسعة، مستعداً للقتال ونهض الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بعسكره إلى ذلك المكان وبعد أيام من وصوله استعرت نار الحرب فيما بين الفريقين وجرت أنهار من الدماء، وتكونت أتلال وجبال من الأجساد المضرجة من القتلى من الفريقين.
فقد وصل أبو الأعور السلمي وهو على مقدمة جيش معاوية إلى منطقة صفين، الكائنة بالقرب من مدينة الرقة في سوريا، ونزلا منزلا اختاروه واسعا واستولوا على شريعة الفرات.
فوصل مالك الأشتر ومعه أربعة آلاف رجل وهم مقدمة الجيش العلوي، فاصطدموا بأبي الأعور وأزالوهم عن الفرات، فوصل معاوية مع الجيش الجرار، فانسحب الأشتر عن الفرات، فاستولى معاوية وأصحابه على شاطئ الفرات وصار الماء لديهم فوصل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ومعه مائة ألف إنسان ويزيدون، فأمر الإمام الجيش أن ينزلوا ويضعوا أثقالهم وأحمالهم، وتسرع بعضهم إلى ناحية معاوية واقتتلوا قتالا قليلا.
وتقدم طائفة من الناس إلى الفرات ليستقوا فمنعهم أهل الشام فأرسل الإمام (عليه السلام) صعصعة بن صوحان إلى معاوية رسولا يعاتبه على تسرعه بالاستيلاء على الماء وجرى هنا كلام طويل.
كان عمرو بن العاص ينصح معاوية ويأمره أن يفسح المجال لأصحاب علي ليشربوا، ولكن غرور معاوية منعه عن قبول النصيحة، وخاصة بعد أن استولى أصحابه استيلاء تاما على الفرات، حتى قال معاوية: يا أهل الشام هذا أول الظفر، لا سقاني الله ولا أبا سفيان إن شربوا منه حتى يقتلوا بأجمعهم.
وتباشر أهل الشام من هذه البشرى السارة وهي التغلب على العدو عن طريق حبس الماء، فقام رجل من أهل الشام همداني متعبد وقال: يا معاوية سبحان الله سبقتم القوم إلى الفرات وتمنعونهم الماء؟ أما الله لو سبقوكم إليه لسقوكم منه، أليس أعظم ما تنالون من القوم أن تمنعوهم الفرات؟ أما تعلمون أن فيهم العبد والأمة والأجير والضعيف ومن لا ذنب له؟؟ هذا والله أول الجور.
فأغلط له معاوية في الكلام وقال لعمرو: اكفني صديقك، فأتاه عمرو وقابله بالكلام الخشن، فسار الهمذاني في سواد الليل حتى لحق بعلي (عليه السلام).
ومكث أصحاب علي (عليه السلام) يوما وليلة بغير ماء، واغتم الإمام (عليه السلام) من عطش أصحابه، لأنهم باتوا في البر عطاشا، قد حيل بينهم وبين الورود إلى الماء، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: إن عليا لا يموت عطشا، هو وتسعون من أهل العراق وسيوفهم على عواتقهم، ولكن دعهم يشربون وتشرب.
فقال معاوية: لا والله أو يموتون عطشا كما مات عثمان.
وخرج الإمام في تلك الليلة يدور في عسكره فسمع قائلا يقول:
أيمنـعنا القوم ماء الفرات؟ وفيــــــنا علي وفينا الهدى
وفينا الصلاة وفينا الصيام وفينا المناجون تحت الدجى
ثم مر بآخر فسمعه يقول:
أيمنعنا القوم ماء الفرات؟ وفينا الرماح وفينا الحجف
وفينا علي له صـــــولة.. إذا خـوفوه الردى لم يخف
ونحن غداة لقينا الزبـــير وطلحــة خضنا غمار التلف
فما بالنا أمس أسد العرين وما بالنا اليوم شاء عجف
وألقي على الأشعث رقعة فيها شعر، فلما قرأها هاجت فيه الحمية، ودخل على الإمام.
فقال: يا أمير المؤمنين أيمنعنا القوم ماء الفرات وأنت فينا والسيوف في أيدينا؟ خل عنا وعن القوم، فوالله لا نرجع حتى نرده أو نموت.
فقال الإمام: ذلك إليكم.
فرجع الأشعث فنادى في الناس: من يريد الماء أو الموت فميعاده موضع كذا، فإني ناهض.
فخرج اثنا عشر ألف رجل من قبيلة كندة وغيرهم، واضعي سيوفهم على عواتقهم، وأقبل الأشتر بخيله فحملوا على الفرات حملة رجل واحد وأخذت السيوف أهل الشام، فولوا مدبرين حتى غمست خيل أمير المؤمنين سنابكها في الفرات واستولوا على الماء، وأزالوا أبا الأعور عن الشريعة وغرقوا منهم بشرا وخيلا، وارتحل معاوية عن ذلك الموضع، ولما صار الماء بأيدهم قالوا: لا والله لا نسقيهم، فأرسل إليهم أمير المؤمنين: أن خذوا حاجتكم من الماء وارجعوا إلى معسكركم، وخلوا بينكم وبين الماء فإن الله قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم، وقالوا له: أمنعهم الماء كما منعوك، فقال: لا، خلوا بينهم وبينه، لا أفعل ما فعله الجاهلون، واستأذنه معاوية في وروده المشرعة فأباح الإمام له ذلك.
كان الإمام (عليه السلام) يحاول المحافظة على السلم والسلام والأمان كما فعل يوم الجمل فلم يزل يرسل الأفراد إلى معاوية للتفاهم وحسم النزاع وكان معاوية مصرا على الحرب والقتال.
وأخيرا اشتعلت نار الحرب واصطدم العسكران، فزحف بعضهم على بعض، وتراموا بالنبال والحجارة حتى فنيت، ثم تطاعنوا بالرماح حتى تكسرت ومشى بعضهم إلى بعض السيوف وعمد الحديد، فلم يسمع السامعون إلا وقع الحديد بعضه على بعض، وانكسفت الشمس وأمطرت السماء دما، وحملت الأفواج على الأفواج.
وحيث أن الحرب كانت قد طالت على الفريقين أراد كل جانب إنهاء الأمر وسئموا البقاء هناك، ولهذا تبادروا إلى القتال واستمرت الحرب ستة وثلاثين ساعة، واقترب الجيش العلوي من مقر قيادة الجيش الأموي وطلب معاوية فرسا لينهزم، وكان أهل الشام ينادون: يا معشر العرب: الله الله في الحرمات من النساء والبنات، الله الله في البقية، لقد فنيت العرب... الخ.
اقترب الجيش العلوي من الفتح، ولاح لهم الظفر والنصر وتوجه الخطر إلى معاوية ولم يستطع المقاومة إلا عن طريق الخدعة والمكر، فأمر معاوية أصحابه في جوف الليل أن يربطوا المصاحف على رؤوس الرماح، وأصبح الصباح وإذا بأهل العراق يشاهدون خمسمائة مصحف على رؤوس الرماح وأهل الشام ينادون بما تقدم من كلامهم، ويستعطفون أهل العراق ويطلبون منهم ترك الحرب، وكان آخر كلامهم: هذا كتاب الله بيننا وبينكم.
فقال الإمام: اللهم إنك تعلم أنهم ما الكتاب يريدون.
ومن هنا اختلف أصحاب علي، فطائفة قالت: القتال، وطائفة قالت: المحاكمة إلى الكتاب، ولا يحل لنا الحرب وقد دعينا إلى حكم الكتاب.
فعند ذلك بطلت الحرب ووضعت أوزارها، وكان عدي بن حاتم يرى أن الفتح والنصر قد اقترب، ويطلب من الإمام إدامة الحرب، وقام عمرو بن الحمق وطلب من الإمام أم يعمل بما يرى، فقام الأشعث بن قيس وقابل هؤلاء بالكلام الخشن وطلب كف القتال.
فقال الأمام: إني أحق من أجاب إلى كتاب الله، ولكن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وابن أبي سرح وابن مسلمة ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وإني أعرف بهم منكم، صحبتهم صغارا ورجالا فكانوا شر صغار وشر رجال!!
ويحكم! إنها كلمة حق يراد بها الباطل، إنهم ما رفعوها أنهم يعرفونها ويعملون بها، ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة، أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحق مقطعه، ولم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا.
استمرت الحرب من يوم شروعها إلى صبيحة ليلة الهرير مائة وعشرة أيام وبلغ عدد القتلى من أهل الشام تسعين ألفا ومن أهل العراق عشرين ألفا والمجموع مائة وعشرة آلاف كما ذكره المسعودي.
فجاء الإمام من أصحابه زهاء عشرين ألفا مقنعين في الحديد حاملي سيوفهم على عواتقهم، وقد اسودت جباههم من كثرة السجود، وهم الذين صاروا بعد ذلك خوارج، فنادوا الإمام باسمه لا بإمرة المؤمنين وقالوا: يا علي أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان، فو الله لنفعلها إن لم تجبهم.
فقال الإمام (عليه السلام): ويحكم !! أنا أول من دعا إلى كتاب الله، وأول من أجاب...
ولكني قد أعلمتكم أنهم قد كادوكم، وأنهم ليس العمل بالقرآن يريدون.
كان مالك الأشتر في تلك الساعة يقاتل ويتقدم لحظة بعد لحظة، وجيش معاوية كان ينسحب وينقرض ساعة بعد ساعة ولو أمهلوا الأشتر ساعة واحدة لانتهت الحرب.
فصاح هؤلاء: يا أمير المؤمنين ابعث إلى الأشتر ليأتيك.
فبعث الإمام رجلا إلى الأشتر: أن ائتني.
فقال الأشتر: ليس هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي، إني قد رجوت الفتح فلا تعجلني.
رجع الرسول فأخبر الإمام، وحمل الأشتر على أهل الشام وظهرت علامات الفتح، ولكن القوم قالوا: يا أمير المؤمنين ما نراك إلا أمرته بالقتال.
فقال الإمام: أرأيتموني شاورت رسولي إليه؟ أليس إنما كلمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعون؟ فقالوا: ابعث إليه، وإلا فوالله اعتزلناك!! فذهب الرسول إلى الأشتر وأخبره عن اختلاف القوم، وما كان الأشتر يحب مغادرة جبهة القتال في تلك الساعة الحرجة فقال له الرسول: أتحب أنك ظفرت ههنا، وأن أمير المؤمنين بمكانه الذي هو فيه يفرج عنه ويسلم إلى عدوه؟؟، فقال الأشتر: سبحان الله!! لا والله، لا أحب ذلك فقال الرسول: فإنهم قد حلفوا عليه لترسلن إلى الأشتر فليأتيك أو لنقتلنك بأسيافنا كما قتلنا عثمان أو لنسلمك إلى عدوك!! أقبل الأشتر مغضبا وصاح بالقوم: يا أهل الذل والوهن أحين علوتم القوم وظنوا أنكم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها...
فلا تجيبوهم، أمهلوني فإني قد أحسست بالفتح.
قالوا: لا نمهلك.
جرى كلام طويل وعتاب بين الأشتر والقوم وآل الأمر إلى السب والشتم والصياح، فصاح بهم الإمام، فكفوا، فصاح القوم: أم أمير المؤمنين قد رضي المحاكمة بحكم القرآن.
كان الإمام ساكتا لا يتكلم، والقوم يتكلمون، ولما سكتوا قال الإمام: أيها الناس إن أمري لم يزل معكم على ما أحب إلى أن أخذت منكم الحرب...
إلا: إني أمس أمير المؤمنين فأصبحت اليوم مأمورا وكنت ناهيا فأصبحت منهيا، وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون.
اضطرب أقوال الرجال وقام الرؤساء وتكلموا بما تكلموا من الموافقة على رأي الإمام ورفض المحاكمة، ولكن المهرجين نشروا هذه الكلمة: إن أمير المؤمنين رضي التحكيم.
ودخل الأشعث بن قيس ـ رأس الفساد ـ واستأذن من الإمام ليكون رسولا إلى معاوية فأذن له الإمام، فجاء الأشعث ودخل على معاوية وقال: لأي شيء رفعتم هذه المصاحف؟ فقال معاوية: لنرجع إلى ما أمر الله به فيها، فابعثوا رجلا منكم ترضون به، ونبعث رجلا منا، ونأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله، ولا يعدوانه، ثم نتبع ما اتفقنا عليه.
فرجع الأشعث.
فأقبل جماعة من أصحاب الإمام وجماعة من أصحاب معاوية واجتمعوا بين الصفين وتذاكروا حول انتخاب (الحكم) فانتخب أهل الشام عمرو بن العاص، وانتخب الأشعث ونظراؤه أبا موسى الأشعري فرفض الإمام أبا موسى ولم يرض به، وقال الأشعث وجماعة: لا نرضى إلا به، فلم يوافق الإمام وانتخب ابن عباس ليكون (حكما) فلم يرض الأشعث بابن عباس لأنه من أقارب الإمام فاختار الأشتر فلم يرضوا به.
جادل الأشعث بكل وقاحة وصلافة، ورد على الإمام جميع مقترحاته وبقي مصرا على الأشعري، فقال الإمام: فاصنعوا ما شئتم! وكان يصفق بيديه ويقول: يا عجبا! أعصى ويطاع معاوية؟!
أرسلوا إلى أبي موسى وكان في الشام فجاء إلى معسكر الإمام، فجاء الأشتر ورشح نفسه ليكون هو الحكم، وجاء الأحنف بن قيس وحذر الإمام من الأشعري وعجزه وضعف نفسه ورشح نفسه للحكم فوافق الإمام على ذلك، ولكن الناس رفضوا وقالوا: لا يكون إلا أبا موسى.
وكتبوا كتاب الموادعة وهذه صورته: هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان...
فلما قرأ معاوية الكتاب قال: بئس الرجل أنا إن أقررت أنه أمير المؤمنين ثم قاتلته!! أعيد الكتاب إلى الإمام وأخبروه فأمر الإمام بمحو كلمة (أمير المؤمنين) فنهاه الأحنف عن ذلك، فقال الأشعث: أمح هذا الاسم...!! فقال الإمام: إن هذا اليوم كيوم الحديبية حين كتب الكتاب عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): هذا ما صالح عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو...
فقال سهيل: لو أعلم أنك رسول الله لم أقاتلك ولم أخالفك، إني إذن لظالم لك...
ولكن أكتب: محمد بن عبد الله.
فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يا علي إني لرسول الله وأنا محمد بن عبد الله، ولن يمحو عني الرسالة كتابي لهم.
إن ذلك الكتاب أنا كتبته بيننا وبين المشركين، واليوم أكتبه إلى أبنائهم كما كان رسول الله كتبه إلى آبائهم شبها ومثلا.
فقال عمرو بن العاص: سبحان الله! أتشبهنا بالكفار ونحن مسلمون؟ فقال الإمام: يا بن النابغة ومتى لم تكن للكافرين وليا وللمسلمين عدوا؟ ولما أرادوا تنظيم الكتاب سألوا الإمام: أتقر أنهم مسلمون مؤمنون؟ فقال الإمام: ما أقر لمعاوية ولا لأصحابه أنهم مؤمنون ولا مسلمون ولكن يكتب معاوية ما شاء ويقر بما شاء لنفسه ولأصحابه ويسمي نفسه بما شاء وأصحابه.
فكتبوا الكتاب، وكان في أعلى الكتاب خاتم أمير المؤمنين وفي أسفله خاتم معاوية وشهد الشهود عليها وخرج الأشعث بالكتاب وقرأه على أهل العراق فهاج الناس وظهرت الفتنة والانقسام والتفرقة وتكونت الخوارج وصاحوا: لا حكم إلا لله.
فأين قتلانا يا أشعث؟ وحمل بعضهم على الأشعث ليقتله.
وأقبل الناس إلى الإمام مستنكرين للحكومة وطلبوا من الإمام نقض العهد والرجوع إلى الحرب فقال الإمام: ويحكم! أبعد الرضا والميثاق والعهد نرجع؟ أليس الله تعالى قد قال: أوفوا بالعقود؟ وقال: (أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً)(1).
فبرأ الخوارج من الإمام وبرأ منهم، وأقبل الجيش يستأذنون الإمام بالهجوم على معاوية فقال الإمام (عليه السلام): لو كان هذا قبل المعاهدة وسطر الصحيفة لأزلتهم عن عسكرهم.
توجه الأشعري للاجتماع بابن العاص للمحاكمة، فحذره الناس عن ابن العاص وغدره ومكيدته وسوء سوابقه حتى يتخذ التدابير اللازمة ويكون على بصيرة من أمره، ولكن كان كل هذا بلا جدوى بلى كانت النتيجة معكوسة.
اجتمع الحكمان في المكان المعد لهما فقال عمرو: تكلم يا أبا موسى فقال الأشعري: بل أنت تكلم.
فقال عمرو: ما كنت لأفعل وأقدم نفسي قبلك، ولك حقوق كلها واجبة...
فتكلم أبو موسى فقال عمرو: إن للكلام أولاً وآخراً ومتى تنازعنا الكلام لم نبلغ آخره حتى ننسى أوله، فاجعل ما كان من كلام بيننا في كتاب يصير إليه أمرنا؟ فقال أبو موسى: اكتب، دعى عمرو بصحيفة وكاتب.
وبعد سؤال وجواب وخداع وتزوير قال الأشعري: قد علمت أن أهل العراق لا يحبون معاوية أبدا، وأن أهل الشام لا يحبون عليا أبدا، فهلم نخلعهما ونستخلف عبد الله بن عمر بن الخطاب.
فقال عمرو: أيفعل ابن عمر؟ قال: نعم، إذا حمله الناس على فعل ذلك فعل.
فقال عمرو: فهل لك في سعد بن أبي وقاص؟ قال: لا.
فذكر ابن العاص جماعة والأشعري لا يرضى بهم.
فقال عمرو: قم واخطب.
فقال الأشعري: قم أنت واخطب فامتنع ابن العاص وقام الأشعري وخرج من الخيمة وقد اجتمع أربعمائة رجل من أصحاب الإمام ومثلهم من أصحاب معاوية.
فقام الأشعري وخطب خطبة وقال: أيها الناس إنا نظرنا في أمرنا فرأينا أقرب ما يحضرنا من الأمن والصلاح ولم الشعث وحقن الدماء وجمع الألفة خلعنا عليا ومعاوية، وقد خلعت عليا كما خلعت عمامتي هذه، وخلع عمامته...
وقام عمرو وقال: أيها الناس إن أبا موسى عبد الله بن قيس قد خلع عليا وأخرجه من هذا الأمر الذي يطلب، وهو أعلم به، ألا وأني خلعت عليا وأثبت معاوية علي وعليكم...
فقال الأشعري كذب عمرو ولم نستخلف معاوية ولكنا خلعنا معاوية وعليا! فقال عمرو بل كذب عبد الله بن قيس قد خلع عليا ولم أخلع معاوية.
فقال الأشعري: ما لك؟ لا وفقك الله غدرت وفجرت، إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.
فقال عمرو: بل إياك يلعن الله، كذبت وغدرت إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا.
فضرب عمرو أبا موسى فسقط وضرب شريح عمراً بالسوط، فركب الأشعري راحلته وتوجه إلى مكة وحلف أن لا ينظر في وجه علي.
حديثنا الليلة حول الحرب الثانية التي وقعت في أيام أمير المؤمنين (عليه السلام) وهي واقعة صفين، تلك المجزرة الرهيبة، التي تقشعر الجلود من استماع الحوادث، والفجائع التي وقعت في تلك المعركة، وضياع الحق وغلبة الباطل عن طريق الخدعة والغدر والمكر والتزوير، وتتجلى صحيفة أمير المؤمنين نقية بيضاء متلألئة، وتتمثل فيها العدالة والتقوى والورع، نذكرها في صورة موجزة: لما انتهت غزوة الجمل في البصرة ووضعت الحرب أوزارها، ورجع الإمام (عليه السلام) إلى الكوفة مظفرا منصورا، بعث كتابا إلى معاوية يأمره بأخذ البيعة له (عليه السلام)، وبعث الكتاب بيد رجل إلى الشام، وجمع معاوية بعض مشاهير الشام وأمرهم بإشاعة هذا الخبر وإذاعته فيما بين الناس: (أن عليا قتل عثمان، ومعاوية ولي دم عثمان، فيجب الطلب بثأر عثمان ودمه)9 وأعانه على هذه الفكرة عمرو بن العاص واشترط على معاوية أنه إذا بايعه وأعانه على حرب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وأخرجوا مصر من تحت سلطة أمير المؤمنين (عليه السلام) يكون عمرو بن العاص والياً وأميراً على مصر، فبايعه على ذلك وبايع أهل الشام معاوية أيضا.
فنهض معاوية بجيشه الجرار وأقبل إلى (صفين)، وهو اسم أرض كبيرة واسعة، مستعداً للقتال ونهض الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بعسكره إلى ذلك المكان وبعد أيام من وصوله استعرت نار الحرب فيما بين الفريقين وجرت أنهار من الدماء، وتكونت أتلال وجبال من الأجساد المضرجة من القتلى من الفريقين.
فقد وصل أبو الأعور السلمي وهو على مقدمة جيش معاوية إلى منطقة صفين، الكائنة بالقرب من مدينة الرقة في سوريا، ونزلا منزلا اختاروه واسعا واستولوا على شريعة الفرات.
فوصل مالك الأشتر ومعه أربعة آلاف رجل وهم مقدمة الجيش العلوي، فاصطدموا بأبي الأعور وأزالوهم عن الفرات، فوصل معاوية مع الجيش الجرار، فانسحب الأشتر عن الفرات، فاستولى معاوية وأصحابه على شاطئ الفرات وصار الماء لديهم فوصل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ومعه مائة ألف إنسان ويزيدون، فأمر الإمام الجيش أن ينزلوا ويضعوا أثقالهم وأحمالهم، وتسرع بعضهم إلى ناحية معاوية واقتتلوا قتالا قليلا.
وتقدم طائفة من الناس إلى الفرات ليستقوا فمنعهم أهل الشام فأرسل الإمام (عليه السلام) صعصعة بن صوحان إلى معاوية رسولا يعاتبه على تسرعه بالاستيلاء على الماء وجرى هنا كلام طويل.
كان عمرو بن العاص ينصح معاوية ويأمره أن يفسح المجال لأصحاب علي ليشربوا، ولكن غرور معاوية منعه عن قبول النصيحة، وخاصة بعد أن استولى أصحابه استيلاء تاما على الفرات، حتى قال معاوية: يا أهل الشام هذا أول الظفر، لا سقاني الله ولا أبا سفيان إن شربوا منه حتى يقتلوا بأجمعهم.
وتباشر أهل الشام من هذه البشرى السارة وهي التغلب على العدو عن طريق حبس الماء، فقام رجل من أهل الشام همداني متعبد وقال: يا معاوية سبحان الله سبقتم القوم إلى الفرات وتمنعونهم الماء؟ أما الله لو سبقوكم إليه لسقوكم منه، أليس أعظم ما تنالون من القوم أن تمنعوهم الفرات؟ أما تعلمون أن فيهم العبد والأمة والأجير والضعيف ومن لا ذنب له؟؟ هذا والله أول الجور.
فأغلط له معاوية في الكلام وقال لعمرو: اكفني صديقك، فأتاه عمرو وقابله بالكلام الخشن، فسار الهمذاني في سواد الليل حتى لحق بعلي (عليه السلام).
ومكث أصحاب علي (عليه السلام) يوما وليلة بغير ماء، واغتم الإمام (عليه السلام) من عطش أصحابه، لأنهم باتوا في البر عطاشا، قد حيل بينهم وبين الورود إلى الماء، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: إن عليا لا يموت عطشا، هو وتسعون من أهل العراق وسيوفهم على عواتقهم، ولكن دعهم يشربون وتشرب.
فقال معاوية: لا والله أو يموتون عطشا كما مات عثمان.
وخرج الإمام في تلك الليلة يدور في عسكره فسمع قائلا يقول:
أيمنـعنا القوم ماء الفرات؟ وفيــــــنا علي وفينا الهدى
وفينا الصلاة وفينا الصيام وفينا المناجون تحت الدجى
ثم مر بآخر فسمعه يقول:
أيمنعنا القوم ماء الفرات؟ وفينا الرماح وفينا الحجف
وفينا علي له صـــــولة.. إذا خـوفوه الردى لم يخف
ونحن غداة لقينا الزبـــير وطلحــة خضنا غمار التلف
فما بالنا أمس أسد العرين وما بالنا اليوم شاء عجف
وألقي على الأشعث رقعة فيها شعر، فلما قرأها هاجت فيه الحمية، ودخل على الإمام.
فقال: يا أمير المؤمنين أيمنعنا القوم ماء الفرات وأنت فينا والسيوف في أيدينا؟ خل عنا وعن القوم، فوالله لا نرجع حتى نرده أو نموت.
فقال الإمام: ذلك إليكم.
فرجع الأشعث فنادى في الناس: من يريد الماء أو الموت فميعاده موضع كذا، فإني ناهض.
فخرج اثنا عشر ألف رجل من قبيلة كندة وغيرهم، واضعي سيوفهم على عواتقهم، وأقبل الأشتر بخيله فحملوا على الفرات حملة رجل واحد وأخذت السيوف أهل الشام، فولوا مدبرين حتى غمست خيل أمير المؤمنين سنابكها في الفرات واستولوا على الماء، وأزالوا أبا الأعور عن الشريعة وغرقوا منهم بشرا وخيلا، وارتحل معاوية عن ذلك الموضع، ولما صار الماء بأيدهم قالوا: لا والله لا نسقيهم، فأرسل إليهم أمير المؤمنين: أن خذوا حاجتكم من الماء وارجعوا إلى معسكركم، وخلوا بينكم وبين الماء فإن الله قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم، وقالوا له: أمنعهم الماء كما منعوك، فقال: لا، خلوا بينهم وبينه، لا أفعل ما فعله الجاهلون، واستأذنه معاوية في وروده المشرعة فأباح الإمام له ذلك.
كان الإمام (عليه السلام) يحاول المحافظة على السلم والسلام والأمان كما فعل يوم الجمل فلم يزل يرسل الأفراد إلى معاوية للتفاهم وحسم النزاع وكان معاوية مصرا على الحرب والقتال.
وأخيرا اشتعلت نار الحرب واصطدم العسكران، فزحف بعضهم على بعض، وتراموا بالنبال والحجارة حتى فنيت، ثم تطاعنوا بالرماح حتى تكسرت ومشى بعضهم إلى بعض السيوف وعمد الحديد، فلم يسمع السامعون إلا وقع الحديد بعضه على بعض، وانكسفت الشمس وأمطرت السماء دما، وحملت الأفواج على الأفواج.
وحيث أن الحرب كانت قد طالت على الفريقين أراد كل جانب إنهاء الأمر وسئموا البقاء هناك، ولهذا تبادروا إلى القتال واستمرت الحرب ستة وثلاثين ساعة، واقترب الجيش العلوي من مقر قيادة الجيش الأموي وطلب معاوية فرسا لينهزم، وكان أهل الشام ينادون: يا معشر العرب: الله الله في الحرمات من النساء والبنات، الله الله في البقية، لقد فنيت العرب... الخ.
اقترب الجيش العلوي من الفتح، ولاح لهم الظفر والنصر وتوجه الخطر إلى معاوية ولم يستطع المقاومة إلا عن طريق الخدعة والمكر، فأمر معاوية أصحابه في جوف الليل أن يربطوا المصاحف على رؤوس الرماح، وأصبح الصباح وإذا بأهل العراق يشاهدون خمسمائة مصحف على رؤوس الرماح وأهل الشام ينادون بما تقدم من كلامهم، ويستعطفون أهل العراق ويطلبون منهم ترك الحرب، وكان آخر كلامهم: هذا كتاب الله بيننا وبينكم.
فقال الإمام: اللهم إنك تعلم أنهم ما الكتاب يريدون.
ومن هنا اختلف أصحاب علي، فطائفة قالت: القتال، وطائفة قالت: المحاكمة إلى الكتاب، ولا يحل لنا الحرب وقد دعينا إلى حكم الكتاب.
فعند ذلك بطلت الحرب ووضعت أوزارها، وكان عدي بن حاتم يرى أن الفتح والنصر قد اقترب، ويطلب من الإمام إدامة الحرب، وقام عمرو بن الحمق وطلب من الإمام أم يعمل بما يرى، فقام الأشعث بن قيس وقابل هؤلاء بالكلام الخشن وطلب كف القتال.
فقال الأمام: إني أحق من أجاب إلى كتاب الله، ولكن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وابن أبي سرح وابن مسلمة ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وإني أعرف بهم منكم، صحبتهم صغارا ورجالا فكانوا شر صغار وشر رجال!!
ويحكم! إنها كلمة حق يراد بها الباطل، إنهم ما رفعوها أنهم يعرفونها ويعملون بها، ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة، أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحق مقطعه، ولم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا.
استمرت الحرب من يوم شروعها إلى صبيحة ليلة الهرير مائة وعشرة أيام وبلغ عدد القتلى من أهل الشام تسعين ألفا ومن أهل العراق عشرين ألفا والمجموع مائة وعشرة آلاف كما ذكره المسعودي.
فجاء الإمام من أصحابه زهاء عشرين ألفا مقنعين في الحديد حاملي سيوفهم على عواتقهم، وقد اسودت جباههم من كثرة السجود، وهم الذين صاروا بعد ذلك خوارج، فنادوا الإمام باسمه لا بإمرة المؤمنين وقالوا: يا علي أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان، فو الله لنفعلها إن لم تجبهم.
فقال الإمام (عليه السلام): ويحكم !! أنا أول من دعا إلى كتاب الله، وأول من أجاب...
ولكني قد أعلمتكم أنهم قد كادوكم، وأنهم ليس العمل بالقرآن يريدون.
كان مالك الأشتر في تلك الساعة يقاتل ويتقدم لحظة بعد لحظة، وجيش معاوية كان ينسحب وينقرض ساعة بعد ساعة ولو أمهلوا الأشتر ساعة واحدة لانتهت الحرب.
فصاح هؤلاء: يا أمير المؤمنين ابعث إلى الأشتر ليأتيك.
فبعث الإمام رجلا إلى الأشتر: أن ائتني.
فقال الأشتر: ليس هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي، إني قد رجوت الفتح فلا تعجلني.
رجع الرسول فأخبر الإمام، وحمل الأشتر على أهل الشام وظهرت علامات الفتح، ولكن القوم قالوا: يا أمير المؤمنين ما نراك إلا أمرته بالقتال.
فقال الإمام: أرأيتموني شاورت رسولي إليه؟ أليس إنما كلمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعون؟ فقالوا: ابعث إليه، وإلا فوالله اعتزلناك!! فذهب الرسول إلى الأشتر وأخبره عن اختلاف القوم، وما كان الأشتر يحب مغادرة جبهة القتال في تلك الساعة الحرجة فقال له الرسول: أتحب أنك ظفرت ههنا، وأن أمير المؤمنين بمكانه الذي هو فيه يفرج عنه ويسلم إلى عدوه؟؟، فقال الأشتر: سبحان الله!! لا والله، لا أحب ذلك فقال الرسول: فإنهم قد حلفوا عليه لترسلن إلى الأشتر فليأتيك أو لنقتلنك بأسيافنا كما قتلنا عثمان أو لنسلمك إلى عدوك!! أقبل الأشتر مغضبا وصاح بالقوم: يا أهل الذل والوهن أحين علوتم القوم وظنوا أنكم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها...
فلا تجيبوهم، أمهلوني فإني قد أحسست بالفتح.
قالوا: لا نمهلك.
جرى كلام طويل وعتاب بين الأشتر والقوم وآل الأمر إلى السب والشتم والصياح، فصاح بهم الإمام، فكفوا، فصاح القوم: أم أمير المؤمنين قد رضي المحاكمة بحكم القرآن.
كان الإمام ساكتا لا يتكلم، والقوم يتكلمون، ولما سكتوا قال الإمام: أيها الناس إن أمري لم يزل معكم على ما أحب إلى أن أخذت منكم الحرب...
إلا: إني أمس أمير المؤمنين فأصبحت اليوم مأمورا وكنت ناهيا فأصبحت منهيا، وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون.
اضطرب أقوال الرجال وقام الرؤساء وتكلموا بما تكلموا من الموافقة على رأي الإمام ورفض المحاكمة، ولكن المهرجين نشروا هذه الكلمة: إن أمير المؤمنين رضي التحكيم.
ودخل الأشعث بن قيس ـ رأس الفساد ـ واستأذن من الإمام ليكون رسولا إلى معاوية فأذن له الإمام، فجاء الأشعث ودخل على معاوية وقال: لأي شيء رفعتم هذه المصاحف؟ فقال معاوية: لنرجع إلى ما أمر الله به فيها، فابعثوا رجلا منكم ترضون به، ونبعث رجلا منا، ونأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله، ولا يعدوانه، ثم نتبع ما اتفقنا عليه.
فرجع الأشعث.
فأقبل جماعة من أصحاب الإمام وجماعة من أصحاب معاوية واجتمعوا بين الصفين وتذاكروا حول انتخاب (الحكم) فانتخب أهل الشام عمرو بن العاص، وانتخب الأشعث ونظراؤه أبا موسى الأشعري فرفض الإمام أبا موسى ولم يرض به، وقال الأشعث وجماعة: لا نرضى إلا به، فلم يوافق الإمام وانتخب ابن عباس ليكون (حكما) فلم يرض الأشعث بابن عباس لأنه من أقارب الإمام فاختار الأشتر فلم يرضوا به.
جادل الأشعث بكل وقاحة وصلافة، ورد على الإمام جميع مقترحاته وبقي مصرا على الأشعري، فقال الإمام: فاصنعوا ما شئتم! وكان يصفق بيديه ويقول: يا عجبا! أعصى ويطاع معاوية؟!
أرسلوا إلى أبي موسى وكان في الشام فجاء إلى معسكر الإمام، فجاء الأشتر ورشح نفسه ليكون هو الحكم، وجاء الأحنف بن قيس وحذر الإمام من الأشعري وعجزه وضعف نفسه ورشح نفسه للحكم فوافق الإمام على ذلك، ولكن الناس رفضوا وقالوا: لا يكون إلا أبا موسى.
وكتبوا كتاب الموادعة وهذه صورته: هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان...
فلما قرأ معاوية الكتاب قال: بئس الرجل أنا إن أقررت أنه أمير المؤمنين ثم قاتلته!! أعيد الكتاب إلى الإمام وأخبروه فأمر الإمام بمحو كلمة (أمير المؤمنين) فنهاه الأحنف عن ذلك، فقال الأشعث: أمح هذا الاسم...!! فقال الإمام: إن هذا اليوم كيوم الحديبية حين كتب الكتاب عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): هذا ما صالح عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو...
فقال سهيل: لو أعلم أنك رسول الله لم أقاتلك ولم أخالفك، إني إذن لظالم لك...
ولكن أكتب: محمد بن عبد الله.
فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يا علي إني لرسول الله وأنا محمد بن عبد الله، ولن يمحو عني الرسالة كتابي لهم.
إن ذلك الكتاب أنا كتبته بيننا وبين المشركين، واليوم أكتبه إلى أبنائهم كما كان رسول الله كتبه إلى آبائهم شبها ومثلا.
فقال عمرو بن العاص: سبحان الله! أتشبهنا بالكفار ونحن مسلمون؟ فقال الإمام: يا بن النابغة ومتى لم تكن للكافرين وليا وللمسلمين عدوا؟ ولما أرادوا تنظيم الكتاب سألوا الإمام: أتقر أنهم مسلمون مؤمنون؟ فقال الإمام: ما أقر لمعاوية ولا لأصحابه أنهم مؤمنون ولا مسلمون ولكن يكتب معاوية ما شاء ويقر بما شاء لنفسه ولأصحابه ويسمي نفسه بما شاء وأصحابه.
فكتبوا الكتاب، وكان في أعلى الكتاب خاتم أمير المؤمنين وفي أسفله خاتم معاوية وشهد الشهود عليها وخرج الأشعث بالكتاب وقرأه على أهل العراق فهاج الناس وظهرت الفتنة والانقسام والتفرقة وتكونت الخوارج وصاحوا: لا حكم إلا لله.
فأين قتلانا يا أشعث؟ وحمل بعضهم على الأشعث ليقتله.
وأقبل الناس إلى الإمام مستنكرين للحكومة وطلبوا من الإمام نقض العهد والرجوع إلى الحرب فقال الإمام: ويحكم! أبعد الرضا والميثاق والعهد نرجع؟ أليس الله تعالى قد قال: أوفوا بالعقود؟ وقال: (أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً)(1).
فبرأ الخوارج من الإمام وبرأ منهم، وأقبل الجيش يستأذنون الإمام بالهجوم على معاوية فقال الإمام (عليه السلام): لو كان هذا قبل المعاهدة وسطر الصحيفة لأزلتهم عن عسكرهم.
توجه الأشعري للاجتماع بابن العاص للمحاكمة، فحذره الناس عن ابن العاص وغدره ومكيدته وسوء سوابقه حتى يتخذ التدابير اللازمة ويكون على بصيرة من أمره، ولكن كان كل هذا بلا جدوى بلى كانت النتيجة معكوسة.
اجتمع الحكمان في المكان المعد لهما فقال عمرو: تكلم يا أبا موسى فقال الأشعري: بل أنت تكلم.
فقال عمرو: ما كنت لأفعل وأقدم نفسي قبلك، ولك حقوق كلها واجبة...
فتكلم أبو موسى فقال عمرو: إن للكلام أولاً وآخراً ومتى تنازعنا الكلام لم نبلغ آخره حتى ننسى أوله، فاجعل ما كان من كلام بيننا في كتاب يصير إليه أمرنا؟ فقال أبو موسى: اكتب، دعى عمرو بصحيفة وكاتب.
وبعد سؤال وجواب وخداع وتزوير قال الأشعري: قد علمت أن أهل العراق لا يحبون معاوية أبدا، وأن أهل الشام لا يحبون عليا أبدا، فهلم نخلعهما ونستخلف عبد الله بن عمر بن الخطاب.
فقال عمرو: أيفعل ابن عمر؟ قال: نعم، إذا حمله الناس على فعل ذلك فعل.
فقال عمرو: فهل لك في سعد بن أبي وقاص؟ قال: لا.
فذكر ابن العاص جماعة والأشعري لا يرضى بهم.
فقال عمرو: قم واخطب.
فقال الأشعري: قم أنت واخطب فامتنع ابن العاص وقام الأشعري وخرج من الخيمة وقد اجتمع أربعمائة رجل من أصحاب الإمام ومثلهم من أصحاب معاوية.
فقام الأشعري وخطب خطبة وقال: أيها الناس إنا نظرنا في أمرنا فرأينا أقرب ما يحضرنا من الأمن والصلاح ولم الشعث وحقن الدماء وجمع الألفة خلعنا عليا ومعاوية، وقد خلعت عليا كما خلعت عمامتي هذه، وخلع عمامته...
وقام عمرو وقال: أيها الناس إن أبا موسى عبد الله بن قيس قد خلع عليا وأخرجه من هذا الأمر الذي يطلب، وهو أعلم به، ألا وأني خلعت عليا وأثبت معاوية علي وعليكم...
فقال الأشعري كذب عمرو ولم نستخلف معاوية ولكنا خلعنا معاوية وعليا! فقال عمرو بل كذب عبد الله بن قيس قد خلع عليا ولم أخلع معاوية.
فقال الأشعري: ما لك؟ لا وفقك الله غدرت وفجرت، إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.
فقال عمرو: بل إياك يلعن الله، كذبت وغدرت إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا.
فضرب عمرو أبا موسى فسقط وضرب شريح عمراً بالسوط، فركب الأشعري راحلته وتوجه إلى مكة وحلف أن لا ينظر في وجه علي.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى