الليلة الثالثة عشرة علي (عليه السلام) جليس البيت
صفحة 1 من اصل 1
الليلة الثالثة عشرة علي (عليه السلام) جليس البيت
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى على سيد أنبياء الله محمد وآله آل الله.
حديثنا ـ الليلة ـ حول الفترة التي انقضت على أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو جليس البيت، مسلوب الإمكانيات، وقد ابتدأت تلك الفترة من يوم وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) واستيلاء أبي بكر على مسند الحكم، ولما انقضت أيام أبي بكر أوصى من بعده إلى عمر بن الخطاب فكانت أيام حكمه عشر سنوات وشهوراً، ولما طعن عمر وأحس بالوفاة جعل الخلافة شورى، ورشح ستة من الصحابة وأمرهم أن ينتخبوا واحد من أنفسهم وإليكم التفصيل: لما علم عمر بن الخطاب بأنه ميت استشار الناس حول تعيين الخليفة، فأشير عليه بابنه: عبد الله بن عمر، فقال عمر: لاها الله ـ لا يليها رجلان من ولد الخطاب! حسب عمر ما احتقب، لاها الله! لا أتحملها حياً وميتاً.
ثم قال: عن رسول الله مات وهو راض عن هؤلاء الستة من قريش: علي، عثمان، طلحة، الزبير، سعد بن أبي وقاص، عبد الرحمن بن عوف، وقد رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم إماماً.
ثم التفت عمر إلى هؤلاء الستة وقال: أكلكم يطمع في الخلافة؟ فسكتوا، فقال لهم ثانية فقالوا: وما الذي يبعدنا منها؟ وليتها أنت فقمت بها ولسنا دونك في قريش، ولا في السابقة ولا في القرابة.
فقال عمر: أفلا أخبركم عن أنفسكم؟ قالوا: قل، فإنا لو استعفيناك لم تعفنا، فالتفت عمر إلى الزبير وذكر عيوبه ثم التفت إلى طلحة وذكر سوابقه السيئة ثم التفت إلى سعد بن أبي وقاص وذكره بنقائصه، وخاطب عبد الرحمن بن عوف قائلاً: إنك رجل عاجز تحب قومك!! ثم التفت إلى علي وقال: وأما أنت يا علي فلو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض لرجحهم، فقام علي وخرج فقال عمر: والله إني لأعلم مكان الرجل، لو وليتموه أمركم لحملكم على المحجة البيضاء.
قالوا: من هو؟ قال: هذا المولى من بينكم.
قالوا فما يمنعك من ذلك؟ قال: ليس إلى ذلك من سبيل.
وفي رواية ابن أبي الحديد: ثم أقبل على علي (عليه السلام) فقال: لله أنت!! لولا دعابة فيك أما والله لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح والمحجة البيضاء.
ثم أقبل عمر على عثمان وقال: أما أنت يا عثمان ـ فو الله ـ لروثة خير منك!! هؤلاء الذين مات رسول الله وهو راض عنهم!! وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا الموضوع في الجزء الأول من شرح نهج البلاغة.
التفت عمر وقال: ادعوا لي أبا طلحة الأنصاري.
فدعوه فقال له: أنظر يا أبا طلحة إذا عدتم من حفرتي (دفني) فكن في خمسين رجلاً من الأنصار حاملي سيوفكم، فخذ هؤلاء النفر ـ الستة ـ بإمضاء هذا الأمر وتعجيله، واجمعهم في بيت واحد، فإن اتفق خمسة منهم وأبى واحد فاضرب عنقه! وإن اتفق أربعة وأبى اثنان فأضرب أعناقهما! وإن اتفق ثلاثة وخالف ثلاثة فانظر الثلاثة التي فيها عبد الرحمن بن عوف فارجع إلى ما اتفقت عليه!!! فإن أصرت الثلاثة الأخرى على خلافها فاضرب أعناقها، وإن مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا فاضرب أعناق الستة ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم!!! كان هذا هو القرار الصادر بحق الستة الذين مات رسول الله وهو راض عنهم!!! ومات عمر، ولما دفن، جمع أبو طلحة المرشحين للخلافة في بيت عائشة، ووقف هو على باب البيت في خمسين رجلاً حاملي سيوفهم ولما استقر المجلس بهؤلاء الستة وقبل الشروع في الكلام نادى عمار بن ياسر ـ من وراء الباب ـ : إن وليتموها علياً سمعنا وأطعنا، وإن وليتموها عثمان سمعنا وعصينا، فقام الوليد بن عقبة وقال: يا معشر الناس: أهل الشورى إن وليتموها عثمان سمعنا وأطعنا، وإن وليتموها علي سمعنا وعصينا.
فانتهره عمار وقال له: متى كان مثلك يا فاسق يعترض أمور المسلمين وشتات جمعها؟؟.
وتسابا جميعاً وتناوشا حتى حيل بينهما.
فقال المقداد ـ من وراء الباب ـ: يا معشر المسلمين إن وليتموها أحد من القوم فلا تولوها من لم يحضر بدراً، وانهزم يوم أحد ولم يحضر بيعة الرضوان، وولى الدبر يوم التقى الجمعان فقال عثمان: أما والله لئن وليتها لأردنك إلى ربك الأول!!!! أما طلحة فإنه كان يعلم أن الخلافة لا تصل إليه مع وجود أمير المؤمنين (عليه السلام) وعثمان، فلهذا أشهد القوم على نفسه: أنه قد وهب حقه من الشورى لعثمان، وإنما فعل ذلك تقوية لجانب عثمان.
وأما الزبير فكان ابن عم أمير المؤمنين ولما رأى ما صنعه طلحة
لعثمان وهب هو حقه من الشورى إلى أمير المؤمنين فقال: أنا أشهدكم أني قد وهبت حقي من الشورى لعلي.
فتساوى الجانبان ولكل منهما صوت واحد، فبقي عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، فوهب سعد حقه لعبد الرحمن بن عوف لأن سعداً كان يعلم أن الخلافة لا تتم له.
فقال عبد الرحمن لأمير المؤمنين وعثمان: أيكما يخرج نفسه من الخلافة ويكون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين؟؟ فلم يتكلم منهما أحد، فقال عبد الرحمن: أشهدكم أنني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدهما.
فبدأ بعلي (عليه السلام) وقال له: (أبايعك على كتاب الله وسنة النبي وسيرة الشيخين: أبي بكر وعمر) فقال علي بل على كتاب الله وسنة النبي واجتهاد رأيي.
فعدل عبد الرحمن عنه، فعرض ذلك على عثمان فقال: نعم.
فعاد عبد الرحمن إلى علي، فأعاد علي قوله، فعل ذلك عبد الرحمن ثلاث مرات فلما رأى أن علياً غير راجع عما قاله وأن عثمان ينعم له بالإجابة صفق على يد عثمان وقال له: السلام عليك يا أمير المؤمنين.
فقال علي (عليه السلام) لعبد الرحمن بن عوف: والله ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجى صاحبكما من صاحبه.
ثم دعى عليه وقال: دق الله بينكما عطر منشم.
أشار (عليه السلام) إلى سبب تقديم عبد الرحمن عثمان على علي (عليه السلام) وذكر أن السبب في بيعة عبد الرحمن لعثمان كالسبب في بيعة عمر لأبي بكر أي كما أن عمر بايع أبا بكر يوم السقيفة ليرد أبو بكر الخلافة إليه عند موته فدعى عليهما أن يفسد ما بينهما، لأن منشم ـ بكسر الميم ـ اسم امرأة عطارة بمكة وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيبوا من طيبها، وكانوا إذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فيما بينهم حتى صار يضرب به المثل فيقال أشأم من عطر منشم.
واستجاب الله دعاء الإمام (عليه السلام) ففسد بعد ذلك بين عبد الرحمن وعثمان فلم يكلم أحدهما صاحبه حتى مات عبد الرحمن.
لأن عثمان بنى قصره (طمار) والزوراء، وصنع طعاماً كثيراً ودعا الناس إليه فكان فيهم عبد الرحمن، فلما نظر إلى البناء والطعام قال: يا أبن عفان لقد صدقنا عليك ما كنا نكذب فيك، وإني أستعيذ بالله من بيعتك فغضب عثمان وقال: أخرجه عني يا غلام، فأخرجوه، فأمر عثمان الناس أن لا يجالسوه..
وللإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) احتجاج مفصل في يوم الشورى مذكور في (كتاب الاحتجاج للطبرسي) يذكر فيه فضائله وفواضله ومناقبه وخصائصه وينشد الناس ذلك فيحلف له الناس على صدق كلامه وقد اشتهر بحديث المناشدة ورعاية للاختصار لم نذكره.
هذه خلاصة يوم الشورى وقد ذكرناها كما هي بدون أي تعليق ولما انتقلت الخلافة إلى عثمان بن عفان واشترطوا عليه العمل بكتاب الله وسنة النبي (صلّى الله عليه وآله) وسيرة الشيخين فما مضت مدة وإذا به يخالف الكتاب والسنة والشيخين فكان من أعماله أنه ضرب عمار بن ياسر ضرباً شديداً، وضربه برجليه وهما في الخف على بطنه حتى أفتق عمار وأغمي عليه وما زال مغمى عليه حتى فاتته صلاة الظهر والعصر والمغرب، وأمر بتسيير أبي ذر إلى الشام ثم أمر بإرجاعه إلى المدينة فساروا به سيراً حثيثاً بلا نزول ولا راحة ولا نوم فلما وصل إلى المدينة، تناثر لحم فخذيه ورجليه، وبعد ذلك أمر بتسفيره إلى الربذة وهي منطقة ردية الماء والهواء لا زرع فيها ولا كلاء فمات أبو ذر هناك جوعاً ولم يحضره أحد سوى ابنته الصغيرة.
ومنها إحراقه المصاحف (القرائين) ومنها ضربه عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل وقطعه عطاءه مدة سنتين.
ومنها تسليط أقاربه وأرحامه على رقاب المسلمين يلعبون بدمائهم
وأموالهم، ويصلون بالمسلمين في حالة السكر، ويتقيئون الخمر في المحراب.
ومنها أنه بذل من بيت مال المسلمين أربع ملايين وثلاثمائة وعشرة آلاف دينار (4.310.000) ومائة وستة وعشرين مليون وسبع مائة وسبعين ألف درهم (126.770.000) كل ذلك من بيت مال المسلمين وهبها لأبن الزرقاء الزانية مروان بن الحكم ونظرائه من أقارب عثمان وبناته، إلى غير ذلك من المآسي التي يطول الكلام بذكرها.
فأحدثت أعماله في قلوب المسلمين ثورة ونقمة وفي طليعة الناقمين عليه عائشة وطلحة والزبير وغيرهم من المسلمين.
ولهذا كانت عائشة تحرض الناس على عثمان وتخرج قميص رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على قصبة وتقول: أيها المسلمون إن عثمان غير سنة رسول الله وهذا ثوبه لم يبل بعد!!
واجتمع المسلمون من مصر والبصرة والكوفة وقصدوا نحو المدينة يريدون مقابلة عثمان، فجاء إليهم مروان وقابلهم بالكلام الخشن وأجابوه بالسب والشتم، واستمر الثوار يحاصرون دار عثمان، وفي تلك الأيام خرجت عائشة إلى الحج وهي تقول: اقتلوا نعثلاً قتله الله، اقتلوا نعثلاً فقد كفر.
لم يستطع الثوار أن يقابلوا عثمان إلا بعد أن تدخل علي (عليه السلام) في القضية وبذل ما في وسعه للإصلاح بين عثمان والثوار.
فذهبت المساعي أدراج الرياح وكتب عثمان إلى والي مصر يأمره بقطع الأيدي والأرجل من بعض الثائرين بعد أن وعدهم أن ينزل عند رغبتهم ويلبي طلباتهم القانونية وحقوقهم المشروعة، فرجع الثوار وتفرقوا راضين عن عثمان وفي أثناء الطريق وجدوا غلام عثمان ففتشوه فوجدوا عنده ذلك الكتاب فرجعوا وقد أخذ الغضب منهم مأخذاً عظيماً، ولما علم علي (عليه السلام) بذلك انسحب عن الفتنة، واقترب الثوار من دار عثمان ومنعوا أحداً يدخل عليه أو يخرج من
بيته، فصعد عثمان على السطح وقال: من يبلغ علياً ليرسل لنا الماء.
فوصل الخبر إلى علي فأرسل ولديه الحسن والحسين وغلامه فنبر يحمل كل واحد منهم قربة من الماء.
وأراد الثوار أن يمنعوهم من الدخول، ولكن كرامة لرسول الله أذنوا لهم بإيصال الماء إلى عثمان، وأمر علي (عليه السلام) ولديه أن يقفا على باب عثمان يحرسانه من هجوم الثوار عليه.
وأخيراً وجد المحاصرون طريقاً إلى دار عثمان من الدار المجاورة له وهجموا عليه يقدمهم محمد بن أبي بكر وقتلوا عثمان فإنا لله وإنا إليه راجعون.
كان موقف علي (عليه السلام) مقابل أعمال عثمان موقف المصلح الناصح الشفيق، وكثيراً ما كان الإمام يحول بينه وبين تصرفاته غير المرضية، وخاصة في تلك الأيام الأخيرة استطاع الإمام ـ بعد شق الأنفس ـ أن يرفع سوء التفاهم بين عثمان والثوار المصريين والبصريين والكوفيين، ويلطف الجو، ووجد لهم حلاً صحيحاً يحسم نزاعهم ويعيد المياه إلى مجاريها.
ورجع الثوار إلى بلادهم راضين شاكرين لعلي (عليه السلام) موقفه الإصلاحي في قضيتهم ومشكلتهم، ولما وجدوا كتاب عثمان بيد غلامه رجعوا إلى المدينة فأرسل عثمان إلى علي يطلب منه التدخل في القضية فخرج علي والتقى بالثوار وسألهم عن سبب رجوعهم فأبروزا كتاب عثمان وفيه يأمر عثمان بقطع أيدي المصريين وأرجلهم وقتل جماعة آخرين! فجاء بهم علي وأدخلهم على عثمان وأبرز له ذلك الكتاب، فلما نظر إليه عثمان قال: الخاتم خاتمي، والغلام غلامي، والخط خط كتابتي، ولا علم لي بالكتاب!! فقال له الإمام (عليه السلام): فمن تتهم؟ قال عثمان لعلي ـ (عليه السلام) ـ أتهمك وأتهم كاتبي!! فقام علي مغضباً وقال: بل هو فعلك.
واعتزل الإمام تلك الفتنة، ولما استسقاه عثمان أرسل علي (عليه السلام) سيدي شباب أهل الجنة ابني رسول الله الحسن والحسين يحملان الماء إلى دار عثمان ويحرسانه من تلك الفتنة.
وقد تقدم كل هذا، ومع هذا كله وغير هذا مما لم نذكره هنا كان أعداء علي يتهمونه بقتل عثمان ويطلبون منه الثأر، فأقاموا المجازر والمذابح التي أمطرت السماء فيها دما، وكاد العرب أن ينقرض، ولقد بلغ عدد القتلى والضحايا في هذه الحرب أكثر من مائة وستين ألف رجل ولا تسأل عن عوائل هؤلاء وأيتامهم وما هناك من ويلات ومصائب والتفصيل في الليلة القادمة إن شاء الله تعالى.
الحمد لله وصلى على سيد أنبياء الله محمد وآله آل الله.
حديثنا ـ الليلة ـ حول الفترة التي انقضت على أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو جليس البيت، مسلوب الإمكانيات، وقد ابتدأت تلك الفترة من يوم وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) واستيلاء أبي بكر على مسند الحكم، ولما انقضت أيام أبي بكر أوصى من بعده إلى عمر بن الخطاب فكانت أيام حكمه عشر سنوات وشهوراً، ولما طعن عمر وأحس بالوفاة جعل الخلافة شورى، ورشح ستة من الصحابة وأمرهم أن ينتخبوا واحد من أنفسهم وإليكم التفصيل: لما علم عمر بن الخطاب بأنه ميت استشار الناس حول تعيين الخليفة، فأشير عليه بابنه: عبد الله بن عمر، فقال عمر: لاها الله ـ لا يليها رجلان من ولد الخطاب! حسب عمر ما احتقب، لاها الله! لا أتحملها حياً وميتاً.
ثم قال: عن رسول الله مات وهو راض عن هؤلاء الستة من قريش: علي، عثمان، طلحة، الزبير، سعد بن أبي وقاص، عبد الرحمن بن عوف، وقد رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم إماماً.
ثم التفت عمر إلى هؤلاء الستة وقال: أكلكم يطمع في الخلافة؟ فسكتوا، فقال لهم ثانية فقالوا: وما الذي يبعدنا منها؟ وليتها أنت فقمت بها ولسنا دونك في قريش، ولا في السابقة ولا في القرابة.
فقال عمر: أفلا أخبركم عن أنفسكم؟ قالوا: قل، فإنا لو استعفيناك لم تعفنا، فالتفت عمر إلى الزبير وذكر عيوبه ثم التفت إلى طلحة وذكر سوابقه السيئة ثم التفت إلى سعد بن أبي وقاص وذكره بنقائصه، وخاطب عبد الرحمن بن عوف قائلاً: إنك رجل عاجز تحب قومك!! ثم التفت إلى علي وقال: وأما أنت يا علي فلو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض لرجحهم، فقام علي وخرج فقال عمر: والله إني لأعلم مكان الرجل، لو وليتموه أمركم لحملكم على المحجة البيضاء.
قالوا: من هو؟ قال: هذا المولى من بينكم.
قالوا فما يمنعك من ذلك؟ قال: ليس إلى ذلك من سبيل.
وفي رواية ابن أبي الحديد: ثم أقبل على علي (عليه السلام) فقال: لله أنت!! لولا دعابة فيك أما والله لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح والمحجة البيضاء.
ثم أقبل عمر على عثمان وقال: أما أنت يا عثمان ـ فو الله ـ لروثة خير منك!! هؤلاء الذين مات رسول الله وهو راض عنهم!! وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا الموضوع في الجزء الأول من شرح نهج البلاغة.
التفت عمر وقال: ادعوا لي أبا طلحة الأنصاري.
فدعوه فقال له: أنظر يا أبا طلحة إذا عدتم من حفرتي (دفني) فكن في خمسين رجلاً من الأنصار حاملي سيوفكم، فخذ هؤلاء النفر ـ الستة ـ بإمضاء هذا الأمر وتعجيله، واجمعهم في بيت واحد، فإن اتفق خمسة منهم وأبى واحد فاضرب عنقه! وإن اتفق أربعة وأبى اثنان فأضرب أعناقهما! وإن اتفق ثلاثة وخالف ثلاثة فانظر الثلاثة التي فيها عبد الرحمن بن عوف فارجع إلى ما اتفقت عليه!!! فإن أصرت الثلاثة الأخرى على خلافها فاضرب أعناقها، وإن مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا فاضرب أعناق الستة ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم!!! كان هذا هو القرار الصادر بحق الستة الذين مات رسول الله وهو راض عنهم!!! ومات عمر، ولما دفن، جمع أبو طلحة المرشحين للخلافة في بيت عائشة، ووقف هو على باب البيت في خمسين رجلاً حاملي سيوفهم ولما استقر المجلس بهؤلاء الستة وقبل الشروع في الكلام نادى عمار بن ياسر ـ من وراء الباب ـ : إن وليتموها علياً سمعنا وأطعنا، وإن وليتموها عثمان سمعنا وعصينا، فقام الوليد بن عقبة وقال: يا معشر الناس: أهل الشورى إن وليتموها عثمان سمعنا وأطعنا، وإن وليتموها علي سمعنا وعصينا.
فانتهره عمار وقال له: متى كان مثلك يا فاسق يعترض أمور المسلمين وشتات جمعها؟؟.
وتسابا جميعاً وتناوشا حتى حيل بينهما.
فقال المقداد ـ من وراء الباب ـ: يا معشر المسلمين إن وليتموها أحد من القوم فلا تولوها من لم يحضر بدراً، وانهزم يوم أحد ولم يحضر بيعة الرضوان، وولى الدبر يوم التقى الجمعان فقال عثمان: أما والله لئن وليتها لأردنك إلى ربك الأول!!!! أما طلحة فإنه كان يعلم أن الخلافة لا تصل إليه مع وجود أمير المؤمنين (عليه السلام) وعثمان، فلهذا أشهد القوم على نفسه: أنه قد وهب حقه من الشورى لعثمان، وإنما فعل ذلك تقوية لجانب عثمان.
وأما الزبير فكان ابن عم أمير المؤمنين ولما رأى ما صنعه طلحة
لعثمان وهب هو حقه من الشورى إلى أمير المؤمنين فقال: أنا أشهدكم أني قد وهبت حقي من الشورى لعلي.
فتساوى الجانبان ولكل منهما صوت واحد، فبقي عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، فوهب سعد حقه لعبد الرحمن بن عوف لأن سعداً كان يعلم أن الخلافة لا تتم له.
فقال عبد الرحمن لأمير المؤمنين وعثمان: أيكما يخرج نفسه من الخلافة ويكون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين؟؟ فلم يتكلم منهما أحد، فقال عبد الرحمن: أشهدكم أنني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدهما.
فبدأ بعلي (عليه السلام) وقال له: (أبايعك على كتاب الله وسنة النبي وسيرة الشيخين: أبي بكر وعمر) فقال علي بل على كتاب الله وسنة النبي واجتهاد رأيي.
فعدل عبد الرحمن عنه، فعرض ذلك على عثمان فقال: نعم.
فعاد عبد الرحمن إلى علي، فأعاد علي قوله، فعل ذلك عبد الرحمن ثلاث مرات فلما رأى أن علياً غير راجع عما قاله وأن عثمان ينعم له بالإجابة صفق على يد عثمان وقال له: السلام عليك يا أمير المؤمنين.
فقال علي (عليه السلام) لعبد الرحمن بن عوف: والله ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجى صاحبكما من صاحبه.
ثم دعى عليه وقال: دق الله بينكما عطر منشم.
أشار (عليه السلام) إلى سبب تقديم عبد الرحمن عثمان على علي (عليه السلام) وذكر أن السبب في بيعة عبد الرحمن لعثمان كالسبب في بيعة عمر لأبي بكر أي كما أن عمر بايع أبا بكر يوم السقيفة ليرد أبو بكر الخلافة إليه عند موته فدعى عليهما أن يفسد ما بينهما، لأن منشم ـ بكسر الميم ـ اسم امرأة عطارة بمكة وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيبوا من طيبها، وكانوا إذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فيما بينهم حتى صار يضرب به المثل فيقال أشأم من عطر منشم.
واستجاب الله دعاء الإمام (عليه السلام) ففسد بعد ذلك بين عبد الرحمن وعثمان فلم يكلم أحدهما صاحبه حتى مات عبد الرحمن.
لأن عثمان بنى قصره (طمار) والزوراء، وصنع طعاماً كثيراً ودعا الناس إليه فكان فيهم عبد الرحمن، فلما نظر إلى البناء والطعام قال: يا أبن عفان لقد صدقنا عليك ما كنا نكذب فيك، وإني أستعيذ بالله من بيعتك فغضب عثمان وقال: أخرجه عني يا غلام، فأخرجوه، فأمر عثمان الناس أن لا يجالسوه..
وللإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) احتجاج مفصل في يوم الشورى مذكور في (كتاب الاحتجاج للطبرسي) يذكر فيه فضائله وفواضله ومناقبه وخصائصه وينشد الناس ذلك فيحلف له الناس على صدق كلامه وقد اشتهر بحديث المناشدة ورعاية للاختصار لم نذكره.
هذه خلاصة يوم الشورى وقد ذكرناها كما هي بدون أي تعليق ولما انتقلت الخلافة إلى عثمان بن عفان واشترطوا عليه العمل بكتاب الله وسنة النبي (صلّى الله عليه وآله) وسيرة الشيخين فما مضت مدة وإذا به يخالف الكتاب والسنة والشيخين فكان من أعماله أنه ضرب عمار بن ياسر ضرباً شديداً، وضربه برجليه وهما في الخف على بطنه حتى أفتق عمار وأغمي عليه وما زال مغمى عليه حتى فاتته صلاة الظهر والعصر والمغرب، وأمر بتسيير أبي ذر إلى الشام ثم أمر بإرجاعه إلى المدينة فساروا به سيراً حثيثاً بلا نزول ولا راحة ولا نوم فلما وصل إلى المدينة، تناثر لحم فخذيه ورجليه، وبعد ذلك أمر بتسفيره إلى الربذة وهي منطقة ردية الماء والهواء لا زرع فيها ولا كلاء فمات أبو ذر هناك جوعاً ولم يحضره أحد سوى ابنته الصغيرة.
ومنها إحراقه المصاحف (القرائين) ومنها ضربه عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل وقطعه عطاءه مدة سنتين.
ومنها تسليط أقاربه وأرحامه على رقاب المسلمين يلعبون بدمائهم
وأموالهم، ويصلون بالمسلمين في حالة السكر، ويتقيئون الخمر في المحراب.
ومنها أنه بذل من بيت مال المسلمين أربع ملايين وثلاثمائة وعشرة آلاف دينار (4.310.000) ومائة وستة وعشرين مليون وسبع مائة وسبعين ألف درهم (126.770.000) كل ذلك من بيت مال المسلمين وهبها لأبن الزرقاء الزانية مروان بن الحكم ونظرائه من أقارب عثمان وبناته، إلى غير ذلك من المآسي التي يطول الكلام بذكرها.
فأحدثت أعماله في قلوب المسلمين ثورة ونقمة وفي طليعة الناقمين عليه عائشة وطلحة والزبير وغيرهم من المسلمين.
ولهذا كانت عائشة تحرض الناس على عثمان وتخرج قميص رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على قصبة وتقول: أيها المسلمون إن عثمان غير سنة رسول الله وهذا ثوبه لم يبل بعد!!
واجتمع المسلمون من مصر والبصرة والكوفة وقصدوا نحو المدينة يريدون مقابلة عثمان، فجاء إليهم مروان وقابلهم بالكلام الخشن وأجابوه بالسب والشتم، واستمر الثوار يحاصرون دار عثمان، وفي تلك الأيام خرجت عائشة إلى الحج وهي تقول: اقتلوا نعثلاً قتله الله، اقتلوا نعثلاً فقد كفر.
لم يستطع الثوار أن يقابلوا عثمان إلا بعد أن تدخل علي (عليه السلام) في القضية وبذل ما في وسعه للإصلاح بين عثمان والثوار.
فذهبت المساعي أدراج الرياح وكتب عثمان إلى والي مصر يأمره بقطع الأيدي والأرجل من بعض الثائرين بعد أن وعدهم أن ينزل عند رغبتهم ويلبي طلباتهم القانونية وحقوقهم المشروعة، فرجع الثوار وتفرقوا راضين عن عثمان وفي أثناء الطريق وجدوا غلام عثمان ففتشوه فوجدوا عنده ذلك الكتاب فرجعوا وقد أخذ الغضب منهم مأخذاً عظيماً، ولما علم علي (عليه السلام) بذلك انسحب عن الفتنة، واقترب الثوار من دار عثمان ومنعوا أحداً يدخل عليه أو يخرج من
بيته، فصعد عثمان على السطح وقال: من يبلغ علياً ليرسل لنا الماء.
فوصل الخبر إلى علي فأرسل ولديه الحسن والحسين وغلامه فنبر يحمل كل واحد منهم قربة من الماء.
وأراد الثوار أن يمنعوهم من الدخول، ولكن كرامة لرسول الله أذنوا لهم بإيصال الماء إلى عثمان، وأمر علي (عليه السلام) ولديه أن يقفا على باب عثمان يحرسانه من هجوم الثوار عليه.
وأخيراً وجد المحاصرون طريقاً إلى دار عثمان من الدار المجاورة له وهجموا عليه يقدمهم محمد بن أبي بكر وقتلوا عثمان فإنا لله وإنا إليه راجعون.
كان موقف علي (عليه السلام) مقابل أعمال عثمان موقف المصلح الناصح الشفيق، وكثيراً ما كان الإمام يحول بينه وبين تصرفاته غير المرضية، وخاصة في تلك الأيام الأخيرة استطاع الإمام ـ بعد شق الأنفس ـ أن يرفع سوء التفاهم بين عثمان والثوار المصريين والبصريين والكوفيين، ويلطف الجو، ووجد لهم حلاً صحيحاً يحسم نزاعهم ويعيد المياه إلى مجاريها.
ورجع الثوار إلى بلادهم راضين شاكرين لعلي (عليه السلام) موقفه الإصلاحي في قضيتهم ومشكلتهم، ولما وجدوا كتاب عثمان بيد غلامه رجعوا إلى المدينة فأرسل عثمان إلى علي يطلب منه التدخل في القضية فخرج علي والتقى بالثوار وسألهم عن سبب رجوعهم فأبروزا كتاب عثمان وفيه يأمر عثمان بقطع أيدي المصريين وأرجلهم وقتل جماعة آخرين! فجاء بهم علي وأدخلهم على عثمان وأبرز له ذلك الكتاب، فلما نظر إليه عثمان قال: الخاتم خاتمي، والغلام غلامي، والخط خط كتابتي، ولا علم لي بالكتاب!! فقال له الإمام (عليه السلام): فمن تتهم؟ قال عثمان لعلي ـ (عليه السلام) ـ أتهمك وأتهم كاتبي!! فقام علي مغضباً وقال: بل هو فعلك.
واعتزل الإمام تلك الفتنة، ولما استسقاه عثمان أرسل علي (عليه السلام) سيدي شباب أهل الجنة ابني رسول الله الحسن والحسين يحملان الماء إلى دار عثمان ويحرسانه من تلك الفتنة.
وقد تقدم كل هذا، ومع هذا كله وغير هذا مما لم نذكره هنا كان أعداء علي يتهمونه بقتل عثمان ويطلبون منه الثأر، فأقاموا المجازر والمذابح التي أمطرت السماء فيها دما، وكاد العرب أن ينقرض، ولقد بلغ عدد القتلى والضحايا في هذه الحرب أكثر من مائة وستين ألف رجل ولا تسأل عن عوائل هؤلاء وأيتامهم وما هناك من ويلات ومصائب والتفصيل في الليلة القادمة إن شاء الله تعالى.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى