الليلة الثامنة علي (عليه السلام) والعلم
صفحة 1 من اصل 1
الليلة الثامنة علي (عليه السلام) والعلم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله فوق حمد الحامدين وصلى الله على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
قال الله تعالى في كتابه العزيز: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)(1) لا شك أن العلم فضيلة وكمال، ويعترف البشر بشرفه، ويفضل العالم على الجاهل بالفطرة لا بالتقليد، وعلى هذا الأساس لم يسكت الإسلام عن فضيلة العلم والعالم فقد قال الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله): طلب العلم فريضة على كل مسلم.
والقرآن الكريم يشير إلى مزية العلم وقيمته وكرامته في كثير من الآيات، ويثني على كل من أوتي العلم نصيباً.
ومن أهم الأسس للوظائف الراقية والمناصب السامية (كالحكم والقضاء) هو العلم بالأحكام الشرعية وتعاليم آداب القضاء والفتوى، ودرجات الإيمان بالله ومعرفته تابعة لمراتب العلم.
ونحن لا نستطيع أن نعرف علم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ومدى إيمانه بالله تعالى، لأن الرسول (صلّى الله عليه وآله) قال ـ في حديث صحيح ـ : يا علي لا يعرف الله إلا أنا وأنت، ولا يعرفني إلا الله وأنت، ولا يعرفك إلا الله وأنا.
ولا نستطيع أن نحدد علم الإمام ونحيط به، لأنه من علم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلم رسول الله من الله تعالى، وليس عن طريق الاكتساب والتحصيل بل بالإفاضة من عند الله تعالى، ونجد في القرآن الكريم طائفة كبيرة من الآيات البينات التي تصرح بأن علوم الأنبياء من عند الله تعالى عن طريق الإفاضة والإلقاء في القلب، ومعلوم: أن هذا النوع من العلم لا يشوبه شيء، ولا مجال للباطل إليه، بل هو الحق الصحيح الصدق المطابق للواقع، وإليكم بعض تلك الآيات: (وقل: رب زدني علماً)(2).
(فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً)(3).
(وزاده بسطة في العلم والجسم)(4).
(وكلاً آتيناه حكماً وعلماً)(5).
(ولوطاً آتيناه حكماً وعلماً)(6).
(ولقد آتينا داود وسليمان علماً)(7).
(فلما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً)(.
(إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي)(9).
(إذ قال الله يا عيسى بن مريم أذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً، وإذ علمتك الكتاب والحكمة)(10).
(وعلم آدم الأسماء كلها)(11).
(يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك)(12).
(ففهمناه سليمان)(13).
(ذلكما مما علمني ربي)(14).
(وأنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم)(15).
(وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء)(16).
(وإنه لذو علم لما علمناه)(17).
(إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله)(18).
إذا عرفتم ذلك فكيف نستطيع أن نعرف مقياس علوم الإمام ومستوى معارفه وثقافته الإلهية؟ وكيف نتمكن من الإحاطة بعلم باب مدينة علم الرسول (صلّى الله عليه وآله) والتلميذ الأول للرسول الأعظم الذي فرغ رسول الله علومه في صدر الإمام، وعلمه في وجبة واحدة ألف باب من العلم يفتح له من كل باب ألف باب؟.
وما يدري هل آسف على الإمام الذي ضاع قدره في ذلك العهد فلم يفسح له المجال ليبث للمسلمين شيئاً من علومه الإلهية ومعارفه الربانية؟ أم آسف على المسلمين الذين حرموا من ذلك المنهل العذب وهم بأمس الحاجة إلى العلم؟ فقد مضى خمس وعشرون سنة وعلي (عليه السلام) جليس بيته مسلوب الإمكانيات مكبوتاً عليه لا يستطيع تنوير العقول بعلومه وتزويد النفوس بمواهبه؟ قد نسمع أن بعض الغربيين يبدي أسفه على مكتبة الإسكندرية التي حكم عليها بالإحراق، وما ضاعت هناك من علوم وكنوز وأسرار وفنون وصارت طعمة للحريق، فلو كانت تلك العلوم في متناول البشر اليوم وقبل اليوم لكانوا في أرقى درجات الحضارة وأوج العظمة يتصرفون في تلك الكنوز ويعيشون في أوسع فضاء يستنشقون شتى العلوم ويتنعمون بتلك الثروة الفكرية التي كانت تساعدهم في التقدم بصورة مدهشة.
وسبب تأخر المسلمين خاصة والبشر عامة في خلال هذه القرون إنما هو من بركات ذلك العمل اللالإنساني!.
إن كان احتراق مكتبة تضم الكتب المتنوعة يوجب التأثر والتألم في نفوس هواة العلم ورواد الفضيلة مع العلم أن الكتب كانت صامتة لا ينتفع بها الأميون والذين لا يحسنون لغة تلك الكتب، فإن تجميد شخصية قد تمثلت وتجمعت فيها دوائر المعارف بكافة أنواعها وجميع أقسامها يؤسف له أكثر وأكثر، أليس من المؤسف أن تعيش أمة من الناس في الظلمات، وعندهم الضياء اللامع والسراج المنير الذي يضيء لهم الدروب والطرق وهم بأمس الحاجة إليه؟؟ وإذا بجماعة يحاولون إخفاء ذلك الضياء والحيلولة بينه وبين الإضاءة والإشراق، ويعجبهم أن يشاهدوا الناس محرومين عن الاستضاءة بأنوار ذلك القمر، وفعلاً وصلوا إلى ما أرادوا، وحكموا على المجتمع الإسلامي بالخيبة والحرمان من العلوم الإلهية وكنوز المعارف الربانية، وذلك حينما حكموا على علي (عليه السلام) بالاعتزال وسلبوه كل نشاط علمي، وضيقوا عليه المجال غاية التضييق خلال خمس وعشرين سنة ـ كما تقدم الكلام ـ .
وبعد أن وجد المجال وعادت إليه الإمكانيات واسترد ما سلب منه، وإذا بالحروب الداخلية والاضطرابات تحط من نشاطه العلمي وتبلبل فكره وتشغل قلبه، وتسلب القرار والاطمئنان من ذلك المجتمع، فينقلب النشاط العلمي إلى طاقة حربية، وتنقلب المعاهد الثقافية إلى معارك دامية ومجازر مشجية وما هنالك من نتائج وخيمة.
بالرغم من هذا كله فقد استطاع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يرفع أضوأ مشعل للعلم في سماء الثقافة والمعرفة، فهذا كتاب نهج البلاغة وهو جزء من أربعة وعشرين جزءاً من خطب الإمام وكلماته الحكمية ورسائله القيمة، وهذه الكمية هي التي حفظها التاريخ ولا تسأل عن الخطب والعلوم التي ضاعت ولم تلتقطها الأدمغة ولم تسجلها مسجلات التاريخ، فقد روي أن علياً (عليه السلام) خطب في الناس ـ يوماً ـ من بعد صلاة الصبح إلى قبيل الظهر، فكان الإمام يفيض على الخلائق العلوم بشتى أنواعها طيلة ست ساعات تقريباً.
والآن نذكر لكم ما تيسر من الأحاديث الواردة حول علوم الإمام ومدى سعة معلوماته الجمة: (في البحار) قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل القرآن حتى يزهر إلى الله ولحكمت بين أهل التوراة بالتوراة حتى يزهر إلى الله، ولحكمت بين أهل الإنجيل بالإنجيل حتى يزهر إلى الله، ولحكمت بين أهل الزبور بالزبور حتى يزهر إلى الله، ولولا آية في كتاب الله لأنبأتكم بما يكون حتى تقوم الساعة.
وقال علي (عليه السلام): لأنا أعلم بالتوراة من أهل التوراة وأعلم بالإنجيل من أهل الإنجيل.
عن الأصــبغ بن نـــباتة قال: لما قدم علي (عليه السلام) الكوفة صلى بــهم أربعين صباحاً فقرأ بهم: (سبح اسم ربك الأعلى)(19) فقال المنافقون: والله ما يحسن أن يقرأ ابن أبي طالب القرآن، ولو أحسن أن يقرأ لقرأ بنا غير هذه السورة، قال: فبلغه ذلك، فقال ويلهم! إني لأعرف ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، وفصاله من وصاله، وحروفه من معانيه، والله ما حرف نزل على محمد (صلّى الله عليه وآله) إلا وأنا أعرف فيمن أنزل وفي أي يوم نزل وفي أي موضع نزل، ويلهم أما يقرءون (إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى)(20) والله عندي، ورثتها من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وورثها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من إبراهيم وموسى، ويلهم! والله إني أنا الذي أنزل الله في: (وتعيها أذن واعية)(21) فإنا كنا عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيخبرنا بالوحي، فأعيه ويفوتهم، فإذا خرجنا قالوا: ماذا قال آنفاً؟.
عن عبابة بن ربعي قال: سمعت علياً (عليه السلام) يقول: سلوني قبل أن تفقدوني، ألا تسألون من عنده علم المنايا والبلايا والأنساب؟
عن الأصبغ بن نباته، قال: لما بويع أمير المؤمنين (عليه السلام) بالخلافة خرج إلى المسجد معتماً بعمامة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لابساً برديه، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وأنذر، ثم جلس متمكناً وشبك بين أصابعه ووضعها أسفل سرته، ثم قال: يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني فإن عندي علم الأولين والآخرين، أما والله لو ثني لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، حتى ينهى كل كتاب من هذه الكتب ويقول: يا رب إن علياً قضى بقضائك.
والله إني لأعلم بالقرآن وتأوليه من كل مدّعِ علمه، ولولا آية في كتاب الله تعالى لأخبرتكم بما يكون إلى يوم القيامة.
ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو سألتموني عن آية لأخبرنكم بوقت نزولها وفيم نزلت، وأنبأتكم بناسخها من منسوخها وخاصها من عامها، ومحكمها من متشابهها، ومكييها من مدنيها والله ما من فئة تضل أو تهدي إلا وأنا أعرف قائدها وسائقها وناعقها إلى يوم القيامة.
قال ابن عباس: علي علم علماً علمه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) علمه الله، فعلم النبي ـ صلوات الله عليه وآله ـ من علم الله، وعلم علي من علم النبي (صلّى الله عليه وآله) وعلمي من علم علي (عليه السلام)، وما علمي وعلم أصحاب محمد (صلّى الله عليه وآله) في علم علي إلا كقطرة في سبعة أبحر.
عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب قال له: يا أبا الحسن إنك لتعجل في الحكم والفصل للشيء إذا سئلت عنه! قال: فأبرز علي كفه وقال له: كم هذا؟ فقال عمر: خمسة، فقال عجلت: أبا حفص؟ قال: لم يخف علي، فقال علي (عليه السلام): وأنا أسرع فيما لا يخفى علي.
قال الصادق (عليه السلام) لابن أبي ليلى: أتقضي بين الناس يا عبد الرحمن؟ قال: نعم يا ابن رسول الله، قال: بأي شيء تقضي؟ قال: بكتاب الله.
قال: فما لم تجد، في كتاب الله؟ قال من سنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وما لم أجده فيهما أخذته عن الصحابة بما اجتمعوا عليه، قال: فإذا اختلفوا فبقول من تأخذ منهم؟ قال: بقول من أردت وأخالف الباقين، قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما تقول يوم القيامة إذا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: أي رب إن هذا بلغه عني قول فخالفه؟ قال: وأين خالفت قوله يا ابن رسول الله؟ قال: فبلغك أن رسول الله قال: أقضاكم علي (عليه السلام)؟ قال: نعم، قال: فإذا خالفت قوله ألم تخالف قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ فاصفر وجه ابن أبي ليلى وسكت.
عن الأصبغ بن نباتة وجماعة أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال بحضرة المهاجرين والأنصار ـ وأشار إلى صدره ـ كيف ملئ علماً لو وجدت له طالباً؟ سلوني قبل أن تفقدوني، هذا سفط العلم هذا لعاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هذا ما زقني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) زقاً، فاسألوني فإن عندي علم الأولين والآخرين أما والله لو ثنيت لي الوسادة..الخ.
وفي نهج البلاغة: (فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا نبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ومناخ ركابها ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً ويموت موتاً).
وعن سلمان أنه قال (عليه السلام): عندي علم المنايا والبلايا والوصايا والأنساب وفصل الخطاب، ومولد الإسلام ومولد الكفر، وأنا صاحب الميسم، وأنا الفاروق الأكبر، ودولة الدول فسلوني عما يكون إلى يوم القيامة، وعما كان قبلي وعلى عهدي وإلى أن يعبد الله.
علي (عليه السلام) والخطابة
ألا ترى إلى خطبه (عليه السلام) مثل: التوحيد والشقشقية والهداية والملاحم واللؤلؤة والغراء والقاصعة والافتخار والأشباح والدرة اليتيمة والأقاليم والوسيلة والطالوتية والقصبية والسلمانية والناطقة والدامغة والفاضحة، بل إلى نهج البلاغة عن الشريف الرضي، وكتاب خطب أمير المؤمنين عن إسماعيل بن مهران السكوني عن زيد بن وهب أيضاً، قال الرضي: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها ومنه ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها.
الجاحظ في كتاب الغرة: كتب علي (عليه السلام) إلى معاوية: غرّك عزّك، فصار قصار ذلك ذلك، فاخش فاحش فعلك فعلك تهدا بهدا.
وقال (عليه السلام): (من آمن أمن).
قال ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة:
وأما الفصاحة فهو (عليه السلام) إمام الفصحاء، وسيد البلغاء وعن كلامه قيل: هو (دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق) ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة.
قال عبد الحميد بن يحيى: حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثم فاضت.
وقال نباتة: حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلا سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب.
ولما قال محفن بن أبي محفن ـ لمعاوية ـ : (جئتك من عند أعيى الناس) قال له: ويحك! كيف يكون أعيى الناس؟! فو الله ما سن الفصاحة لقريش غيره.
ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة، ولا يبارى في البلاغة، وحسبك أنه لم يدون لأحد من فصحاء الصحابة العُشر ولا نصف العُشر مما دون له، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب (البيان والتبيين) وفي غيره من كتبه.
ومن خطبة له (عليه السلام) يذكر فيها بديع خلقة الخفاش
منها: ومن لطائف صنعته وعجائب خلقته ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء ويبسطها الظلام القابض لكل حي.
وكيف عشيت أعينها، عن أن تستمد من الشمس المضيئة نوراً تهتدي به في مذاهبها، وتتصل بعلانية برهان الشمس إلى معارفها، وردعها بتلألؤ ضيائها عن المضي في سبحات إشراقها، وأكنها في مكانها عن الذهاب في بلج ائتلاقها، فهي مسدلة الجفون بالنهار على أحداقها، وجاعلة الليل سراجاً تستدل به في التماس أرزاقها.
فلا يرد أبصارها إسداف ظلمته، ولا تمتنع من المضي فيه لغسق دجنته، فإذا ألقت الشمس قناعها، وبدت أوضاح نهارها، ودخل من إشراق نورها على الضباب في وجارها، أطبقت الأجفان على مآقيها، وتبلغت بما اكتسبت من فيء ظلم لياليها، فسبحان من جعل الليل لها نهاراً ومعاشاً، والنهار سكناً وقراراً، وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران كأنها شظايا الآذان، غير ذوان ريش ولا قصب، إلا أنك ترى مواضع العروق بينة أعلاماً، لها جناحان لم يرقا فينشقا، ولم يغلظا فيثقلا.
تطير وولدها لاصق بها، لاجئ إليها، يقع إذا وقعت، ويرتفع إذا ارتفعت.
لا يفارقها حتى تشتد أركانه، ويحمله للنهوض جناحه، ويعرف مذاهب عيشه ومصالح نفسه.
فسبحان البارئ لكل شيء على غير مثال خلا من غيره.
من خطبة له (عليه السلام) يذكر فيها عجيب خلقة الطاووس
ابتدعهم خلقاً من حيوان وموات، وساكن وذي حركات.
فأقام من شواهد البينات على لطيف صنعته وعظيم قدرته ما انقادت له العقول معترفة به..
ومسلمة له.
ونعقت في أسماعنا دلائله على وحدانيته وما ذرأ من مختلف طيور الأطيار التي أسكنها أخاديد الأرض وخروق فجاجها، ورواسي أعلامها.
من ذات أجنحة مختلفة، وهيئات متباينة، مصرفة في زمام التسخير ومرفرفة بأجنحتها في مخارق الجو المنفسح، والفضاء المنفرج.
كونها بعد أن لم تكن في عجائب صور ظاهرة، وركّبها في حقاق مفاصل محتجبة.
ومنع بعضها بعبالة خلقه أن يسمو في السماء خفوفاً، وجعله يدف دفيفاً.
ونسقها على اختلافها في الأصابيغ بلطيف قدرته ودقيق صنعته.
فمنها مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه.
ومنها مغموس في لون صبغ قد طوق بخلاف ما صبغ به ومن أعجبها خلقاً: الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل، ونضد ألوانه في أحسن تنضيد، بجناح أشرج قصبه، وذنب أطال مسحبه، إذا درج إلى الأنثى نشره من طيه، وسما به مطلاً على رأسه كأنه قلع داري عنجه نوتيه.
يختال بألوانه، ويميس بزيفانه، يفضي كأفضاء الديكة، ويؤر بملاحقةِ أرّ الفحول المغتلمة في الضراب.
أحيلك من ذلك على معاينة، لا كمن يحيل على ضعيف إسناده.
ولو كان كزعم من يزعم أنه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه فتقف في ضفتي جفونه وأن أنثاه تطعم ذلك، ثم تبيض لا من لقاح فحل سوى الدمع المنبجس لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب، تخال قصبه مداري من فضة وما أنبت عليها من عجيب داراته وشموسه خالص العقبان وفلذ الزبرجد فإن شبهته بما أنبتت الأرض قلت جني جني من زهرة كل ربيع.
وإن ضاهيته بالملابس فهو كموشي الحلل أو كمونق عصب اليمن.
وإن شاكلته بالحلي فهو كفصوص ذات ألوان قد نطقت باللجين المكلل، يمشي مشي المرح المختال، ويتصفح ذنبه وجناحيه فيقهقه ضاحكاً لجمال سرباله وأصابيغ وشاحه، فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا معولاً بصوت يكاد يبين عن استغاثته، ويشهد بصادق توجعه، لأن قوائمه حمش كقوائم الديكة الخلاسية وقد نجمت من ظنبوب ساقه صيصية خفية وله في موضع العرف قنزعة خضراء موشاة، ومخرج عنقه كالإبريق ومغرزها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال وكأنه متلفع بمعجر أسحم، إلا أنه يخيل لكثرة مائه وشدة بريقه أن الخضرة الناضرة ممتزجة به.
ومع فتق سمعه خط كمستدق القلم في لون الأقحوان أبيض يقق.
فهو ببياضه في سواد ما هنالك يأتلق.
وقل صبغ إلا وقد أخذ منه بقسط، وعلاه بكثرة صقاله وبريقه وبصيص ديباجه ورونقه، فهو كالأزاهير المبثوثة لم تربها أمطار ربيع ولا شموس قيظ.
وقد يتحسر من ريشه، ويعرى من لباسه، فبسقط تترى، وينبت تباعاً...
فينحت من قصبه انحتات أوراق الأغصان، ثم يتلاحق نامياً حتى يعود كهيئته قبل سقوطه.
لا يخالف سالف ألوانه، ولا يقع لون في غير مكانه.
وإذا تصفحت شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرة وردية، وتارة خضرة زبرجدية، وأحياناً صفرة عسجدية فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق الفطن، أو تبلغه قرائح العقول، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين وأقل أجزائه قد أعجز الأوهام أن تدركه، والألسنة أن تصفه.
فسبحان الذي بهر العقول عن وصف خلق جلاه للعيون فأدركته محدوداً مكوناً، ومؤلفاً ملوناً.
وأعجز الألسن عن تلخيص صفته، وقعد بها عن تأدية نعته.
وسبحان من أدمج قوائم الذرة والهمجة إلى ما فوقهما من خلق الحيتان والأفيلة.
ووأى على نفسه أن لا يضطرب شبح مما أولج فيه الروح إلا وجعل الحمام موعده والفناء غايته.
ومنها خطبتان له (ع) الأولى خالية من الألف والثانية خالية من النقط
إحداهما بلا ألف والأخرى بلا نقطة (الأولى) في المناقب روى الكلبي عن أبي صالح وأبو جعفر بن بابويه قدس سره بإسناده عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) أنه اجتمعت الصحابة فتذاكروا أن الألف أكثر دخولاً في الكلام فارتجل (عليه السلام) الخطبة المونقة وهي:
حمدت من عظمت منته وسبغت نعمته وسبقت رحمته غضبه، وتمت كلمته، ونفذت مشيئته، وبلغت قضيته، حمدته حمد مقر بربوبيته، متخضع لعبوديته، متنصل من خطيئته، متفرد بتوحده، مؤمل منه مغفرة تنجيه يوم يشغل عن فصيلته وبنيه، ونستعينه ونسترشده ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه وشهدت له شهود مخلص موقن، وفردته تفريد مؤمن متيقن، ووحدته توحيد عبد مذعن، ليس له شريك في ملكه ولم يكن له ولي في صنعه، جل عن مشير ووزير، وعن عون ومعين ونصير ونظير علم فستر، وبطن فخبر، وملك فقهر، وعصي فغفر، وحكم فعدل، لم يزل ولن يزول ليس كمثله شيء وهو بعد كل شيء، رب معتزز بعزته، متمكن بقوته، متقدس بعلوه متكبر بسموه ليس يدركه بصر، ولم يحط به نظر، قوي منيع، بصير سميع، رؤوف رحيم عجز عن وصفه من يصفه، وضل عن نعته من يعرفه، قرب فبعد، وبعد فقرب، يجيب دعوة من يدعوه، ويرزقه ويحبوه، ذو لطف خفي، وبطش قوي، ورحمة موسعة، وعقوبة موجعة، رحمته جنة عريضة مونقة، وعقوبته جحيم ممدودة موبقة، وشهدت ببعث محمد رسوله وعبده وصفيه ونبيه ونجيه وحبيبه وخليله، بعثه في خير عصر، وحين فترة، وكفر، رحمة لعبيده ومنه لمزيده، ختم به نبوته، وشيد به حجته، فوعظ، ونصح وبلغ وكدح، رؤوف بكل مؤمن رحيم، رضي ولي زكي، عليه رحمة وتسليم وبركة وتكريم، من رب غفور رحيم قريب مجيب، وصيتكم معشر من حضرني بوصية ربكم وذكرتكم بسنة نبيكم، فعليكم برهبة تسكن قلوبكم، وخشية تذري دموعكم، وتقية تنجيكم قبل يوم يبليكم ويذهلكم، يوم يفوز فيه من ثقل وزن حسنته، وخف وزن سيئته ولتكن مسألتكم وتملقكم مسألة ذل وخضوع، وشكر وخشوع، بتوبة ونزع، وندم ورجوع، وليغتنم كل مغتنم منكم صحته قبل سقمه، وشيبته قبل هرمه، وسعته قبل فقره، وفرغته قبل شغله، وحضره قبل سفره، قبل تكبر وتهرم وتسقم، يمله طبيبه ويعرض عنه حبيبه، ويقطع عمره ويتغير عقله، ثم قيل هو موعوك، وجسمه منهوك، ثم جد في نزع شديد، وحضره كل قريب وبعيد، فشخص بصره وطمح نظره، ورشح جبينه وعطف عرينه، وسكن حنينه، وحزنته نفسه، وبكته عرسه، وحفر رمسه، ويتم منه ولده، وتفرق منه عدده، وقسم جمعه، وذهب بصره وسمعه، ومدد وجرد وعري وغسل، ونشف وسجي، وبسط له وهيئ، ونشر عليه كفنه، وشد منه ذقنه، وقمص وعمم، وودع وسلم، وحمل فوق سرير، وصُلي عليه بتكبير، ونقل من دور مزخرفة، وقصور مشيدة، وحجر منجدة، وجعل في ضريح ملحود وضيق مرصود، بملبن منضود، مسقف بجلمود، وهيل عليه حفره، وحثي عليه قدره وتحقق حضره، ونسي خيره، ورجع عنه وليه، وصفيه ونديمه ونسيبه، وتبدل به قرينه وحبيبه، فهو حشو قبر، ورهين قفر، يسعى بجسمه دود قبره ويسيل صديده من منخره، يسحق برمته لحمه، وينشف دمه ويرم عظمه، حتى يوم حشره.
فنشر من قبره حين ينفخ في صور، ويدعى بحشر ونشور فثم بعثرت قبور، وحصلت سريرة صدور، وجيء بكل نبي وصديق وشهيد، وتوحد للفصل قدير، بعبده خبير بصير، فكم من زفرة تضنيه، وحسرة تنضيه، في موقف مهول، ومشهد جليل، بين يدي ملك عظيم وبكل صغير وكبير عليم، فحينئذ يلجمه عرقه، ويحصره قلقه، عبرته غير مرحومة، وصرخته غير مسموعة وحجته غير مقبولة، زاول جريدته، ونشر صحيفته، نظر في سوء عمله، وشهدت عليه عينه بنظره، ويده ببطشه، ورجله بخطوه، وفرجه بلمسه، وجلده بمسه، فسلسل جيده، وغلت يده، وسيق فسحب وحده، فورد جهنم بكرب وشدة فظل يعذب في جحيم، ويسقى شربة من حميم، تشوي وجهه وتسلخ جلده، وتضربه زبنيته بمقمع من حديد، ويعود جلده بعد نضجه كجلد جديد، يستغيث فتعرض عنه خزنة جهنم، ويستصرخ فيلبث حقبة يندم، نعوذ برب قدير، من شر كل مصير، ونسأله عفو من رضي عنه، ومغفرة من قبله، فهو ولي مسألتي، ومنجح طلبتي، فمن زحزح عن تعذيب ربه جعل في جنته بعزته وخلد في قصور مشيدة، وملك بحور عين وحفدة، وطيف عليه بكؤوس وسكن حظيرة قدس، وتقلب في نعيم، وسقي من تسنيم، وشرب من عين سلسبيل، ومزج له بزنجبيل، مختم بمسك وعبير، مستديم للملك، مستشعر للسرور، يشرب من خمور في روض مغدق ليس يصدع من شربه، وليس ينزف، هذه منزلة من خشي ربه، وحذر نفسه معصيته، وتلك عقوبة من جحد مشيئته، وسولت له نفسه معصيته، فهو قول فصل، وحكم عدل، وخبر قصص قص، ووعظ نص، تنزيل من حكيم حميد، نزل به روح قدس مبين، على قلب نبي مهتد رشيد، صلت عليه رسل سفرة مكرمون بررة، عذت برب عليم رحيم كريم من شر كل عدو لعين رجيم، فليتضرع متضرعكم وليبتهل مبتهلكم ويستغفر كل مربوب منكم لي ولكم وحسبي ربي وحده.
ثم ارتجل الإمام (عليه السلام) خطبة أخرى خالية من النقط وهي على نسختين (الأولى):
الحمد لله الملك المحمود، المالك الودود مصور كل مولود، ومآل كل مطرود، ساطح المهاد وموطد الأطواد، ومرسل الأمطار ومسهل الأوطار، عالم الأسرار ومدركها، ومدمر الأملاك ومهلكها، ومكور الدهور ومكررها، ومورد الأمور ومصدرها، عم سماحه وكمل ركامه، وهمل، وطاوع السؤال والأمل، وأوسع الرمل وأرمل، أحمده حمداً ممدوداً، وأوحده كما وحد الأواه، وهو الله لا إله للأمم سواه ولا صادع لما عدله وسواه أرسل محمداً علماً للإسلام وإماماً للحكام مسدداً للرعاع ومعطل أحكام ودٍّ وسواع، أعلم وعلم، وحكم وأحكم، وأصل الأصول، ومهد وأكد الموعود، وأوعد أوصل الله له الإكرام، وأودع روحه السلام، ورحم آله وأهله الكرام، ما لمع رائل وملع دال، وطلع هلال، وسمع إهلال، اعملوا رعاكم الله أصلح الأعمال واسلكوا مسالك الحلال، واطرحوا الحرام، ودعوه، واسمعوا أمر الله وعوه، وصلوا الأرحام وراعوها وعاصوا الأهواء واردعوها، وصاهروا أهل الصلاح والورع وصارموا رهط اللهو والطمع، ومصاهركم أطهرالأحرار مولداً وأسراهم سؤدداً، وأحلاهم مورداً، وها هو أمكم وحل حرمكم مملكاً عروسكم المكرمه وما مهر لها كما مهر رسول الله أم سلمه، وهو أكرم صهر أودع الأولاد وملك ما أراد وما سها مملكه ولا وهم ولا وكس ملاحمه ولا وصم، اسأل الله حكم أحماد وصاله، ودوام إسعاده، وألهم كلاً إصلاح حاله والأعداد لمآله ومعاده وله الحمد السرمد والمدح لرسوله أحمد.
(الثانية): في المناقب روى الكلبي عن أبي صالح وأبو جعفر بن بابويه بإسناده عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ارتجل خطبة أخرى من غير النقط التي أولها:
الحمد لله أهل الحمد ومأواه وأوكد الحمد وأحلاه وأسرع الحمد وأسراه وأطهر الحمد وأسماه وأكرم الحمد وأولاه ـ إلى آخرها.
ومنهم الشعراء وهو (عليه السلام) أشعرهم وذكر البلاذري في أنساب الأشراف أن علياً أشعر الصحابة وأفصحهم وأكتبهم.
في تاريخ البلاذري: كان أبو بكر يقول الشعر، وعمر يقول الشعر وعثمان يقول الشعر، وكان علي (عليه السلام) أشعر الثلاثة.
ومنهم الوعاظ وليس لأحد من الأمثال والعبر والمواعظ والزواجر ما له نحو قوله (عليه السلام): (من زرع العدوان حصد الخسران، من ذكر المنية نسي الأمنية، من قعد به العقل قام به الجهل، يا أهل الغرور ما ألهجكم بدار خيرها زهيد، وشرها عتيد، ونعيمها مسلوب، وعزيزها منكوب، ومسالمها محروب، ومالكها مملوك وتراثها متروك؟).
ومنهم الفلاسفة وهو (عليه السلام) أرجحهم، قال (عليه السلام): أنا النقطة أنا الخط، أنا الخط أنا النقطة، أنا النقطة والخط، فقال جماعة: إن القدرة هي الأصل، والجسم حجابه، والصورة حجاب الجسم، لأن النقطة هي الأصل، والخط حجابه ومقامه، والحجاب غير الجسد الناسوتي.
وسئل (عليه السلام) عن العالم العلوي فقال: صور عارية من المواد، عالية عن القوة و الاستعداد، تحلى لها فأشرقت، وطالعها فتلألأت، وألقى في هويتها مثاله فأظهر عنها أفعاله، وخلق الإنسان ذا نفس ناطقة.
إن زكاها بالعلم فقد شابهت جواهر أوائل عللها، وإذا اعتدل مزاجها وفارقت الأضداد فقد شارك بها السبع الشداد.
قال ابن سينا: لم يكن شجاعاً فيلسوفاً قط إلا علي (عليه السلام).
قال الشريف الرضي: من سمع كلامه (عليه السلام) لا يشك أنه كلام من قبع في كسر بيت أو انقطع في سفح جبل، لا يسمع إلا حسه، ولا يرى إلا نفسه، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب، مصلتاً سيفه، فيقطّ الرقاب ويجدل الأبطال، ويعود به ينطف دماً ويقطر مهجاً، وهو مع ذلك زاهد الزهاد وبدل الأبدال، وهذه من فضائله العجيبة وخصائصه التي جمع بها بين الأضداد.
ومنهم المنجمون وهو (عليه السلام) أكيسهم، قال سعيد بن جبير استقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) دهقان فقال له: يا أمير المؤمنين تناحست النجوم الطالعات وتناحست السعود بالنحوس فإذا كان مثل هذا اليوم وجب على الحكيم الاختفاء، ويومك هذا يوم صعب قد اقترن كوكبان، وانفكأ فيه الميزان، وانقدح من برجك النيران، وليس الحرب لك بمكان، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أيها الدهقان، المنبئ بالآثار، المخوف من الأقدار ما كان البارحة صاحب الميزان؟ وفي أي برج كان صاحب السرطان؟ وكم الطالع من الأسد والساعات في الحركات؟ وكم بين السراري والزراري؟ قال: سأنظر في الإسطرلاب فتبسم أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال له: ويلك يا دهقان أنت مسير الثابتات؟ أم كيف تقضي على الجاريات؟ وأين الأسد من المطالع؟ وما الزهرة من التوابع والجوامع؟ وما دور السراري المحركات؟ وكم قدر شعاع المنيرات؟ وكم التحصيل بالغدوات؟ فقال: لا علم لي بذلك يا أمير المؤمنين، فقال له: يا دهقان هل نتج علمك أن انتقل بيت ملك الصين، واحترقت دور بالزنج، وخمد بيت نار فارس وانهدمت منارة الهند، وغرقت سرانديب، وانقض حصن الأندلس، ونتج بترك الروم بالرومية؟؟ فخر الدهقان ساجداً فلما أفاق قال أمير المؤمنين (عليه السلام) ألم أروك من عين التوفيق؟ فقال: بلى، فقال: أنا وصاحبي لا شرقيون ولا غربيون، نحن ناشئة القطب وأعلام الفلك، أما قولك (انقدح من برجك النيران وظهر منه السرطان) فكان الواجب أن تحكم به لي لا علي، أما نوره وضياؤه فعندي، وأما حريقه ولهبه فذهب عني وهذا مسألة عقيمة احسبها إن كنت حاسباً.
فقال الدهقان: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنك علي ولي الله.
هذا وللإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) آراء ونظريات في التوحيد حول الإلهيات، كالصفات الثبوتية والسلبية، وما يتعلق بذلك وله كلام وبحث دقيق حول العلوم الكونية والطبيعية كالفلك والنجوم والسحاب والرعد والبرق وتكوُّن الأمطار وما شابه من المواضيع المتعلقة بالعالم الأعلى.
وله تحليل جليل حول الإنسان نطفة وجنيناً ورضيعاً ووليداً وشاباً وكهلاً وما يدور في هذا الفلك من علم النفس والفلسفة البشرية، وغير ذلك.
يظهر كل هذا من مطاوي كلماته وخطبه الموجودة في نهج البلاغة وغيره من كتب الحديث.
وتتميماً لهذا البحث نذكر كلام ابن الحديد في هذا الموضوع، قال: وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي، لأن شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف العلوم، ومن كلامه (عليه السلام) اقتبس، وعنه نقل، وإليه انتهى ومنه ابتدأ.
فإن المعتزلة الذين هم أهل التوحيد والعدل، وأرباب النظر، ومنهم تعلم الناس هذا الفن ـ تلامذته وأصحابه، لأن كبيرهم واصل بن عطا تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذه (عليه السلام).
وأما الأشعرية فإنهم يضمون إلى أبي الحسن بن أبي بشير الأشعري وهو تلميذ أبي علي الجبائي، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة، فالأشعرية ينتهون بالآخرة إلى أستاذ المعتزلة ومعلمهم، وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام).
وأما الإمامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر.
ومن العلوم: علم الفقه، وهو (عليه السلام) أصله وأساسه، وكل فقيه في الإسلام فهو عيال عليه، ومستفيد من فقهه.
أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد وغيرهما فأخذوا عن أبي حنيفة.
وأما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن فيرجع فقهه إلى أبي حنيفة، وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد (عليه السلام)، وجعفر قرأ على أبيه، وينتهي الأمر إلى علي (عليه السلام).
وأما مالك فقرأ على ربيعة الرأي، وقرأ ربيعة على عكرمة، وقرأ عكرمة على عبد الله بن عباس، وقرأ عبد الله بن عباس على علي بن أبي طالب (عليه السلام).
وإن شئت رددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان ذلك لك، فهؤلاء الفقهاء الأربعة.
أما فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر، وأيضاً فإن فقهاء الصحابة كانوا عمر بن الخطاب وابن عباس، وكلاهما أخذ عن علي (عليه السلام).
أما ابن عباس فظاهر، وأما عمر فقد عرف كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة، وقوله غير مرة: لولا علي لهلك عمر وقوله: لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن، وقوله: لا يفتين أحد في المسجد وعلي حاضر.
فقد عرف بهذا الوجه انتهاء الفقه إليه.
وقد روت العامة والخاصة قوله (صلّى الله عليه وآله) أقضاكم علي والقضاء هو الفقه، فهو إذن أفقههم.
وروى الكل أيضاً أنه (صلّى الله عليه وآله) قال له ـ وقد بعثه إلى اليمن قاضياً ـ : اللهم اهد قلبه، وثبت لسانه.
قال: فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين.
وهو (عليه السلام) الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستة أشهر، وهو الذي أفتى به في الحامل الزانية، وهو الذي قال في المنبرية: صار ثمنها تسعاً.
وهذه المسألة لو فكر الفرضي فيها فكراً طويلاً لاستحسن منه بعد طول النظر ـ هذا الجواب، فما ظنك بمن قاله بديهة واقتضبه ارتجالاً؟ ومن العلوم: علم تفسير القرآن، وعنه أخذ، ومنه فرع، وإذا راجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك، لأن أكثره عنه، وعن عبد الله بن عباس، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته وانقطاعه إليه، وأنه تلميذه وخريجه، وقيل له: أين علمك من علم ابن عمك؟ فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط...
ومن العلوم: علم النحو والعربية، وقد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه وأنشأه وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه وأصوله ومن جملتها: الكلام كله ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف.
ومن جملتها تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة، وتقسيم وجوه الإعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم، وهذا يكاد يلحق بالمعجزات، لأن القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر، ولا تنهض بهذا الاستنباط.
(1) سورة الزمر، الآية: 9.
(2) سورة طه، الآية: 114.
(3) سورة الكهف، الآية: 65.
(4) سورة البقرة، الآية: 247.
(5) سورة الأنبياء، الآية: 79.
(6) سورة الأنبياء، الآية: 74.
(7) سورة النمل، الآية: 15.
( سورة القصص، الآية: 14.
(9) سورة الأعراف، الآية: 144.
(10) سورة المائدة، الآية: 110.
(11) سورة البقرة، الآية: 31.
(12) سورة مريم، الآية: 43.
(13) سورة الأنبياء، الآية:79.
(14) سورة يوسف، الآية: 37.
(15) سورة النساء، الآية: 113.
(16) سورة البقرة، الآية: 251.
(17) سورة يوسف، الآية: 68.
(18) سورة النساء، الآية: 105.
(19) سورة الأعلى، الآية: 1.
(20) سورة الأعلى، الآيتان: 18 و19
(21) سورة الحاقة، الآية: 12.
الحمد لله فوق حمد الحامدين وصلى الله على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
قال الله تعالى في كتابه العزيز: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)(1) لا شك أن العلم فضيلة وكمال، ويعترف البشر بشرفه، ويفضل العالم على الجاهل بالفطرة لا بالتقليد، وعلى هذا الأساس لم يسكت الإسلام عن فضيلة العلم والعالم فقد قال الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله): طلب العلم فريضة على كل مسلم.
والقرآن الكريم يشير إلى مزية العلم وقيمته وكرامته في كثير من الآيات، ويثني على كل من أوتي العلم نصيباً.
ومن أهم الأسس للوظائف الراقية والمناصب السامية (كالحكم والقضاء) هو العلم بالأحكام الشرعية وتعاليم آداب القضاء والفتوى، ودرجات الإيمان بالله ومعرفته تابعة لمراتب العلم.
ونحن لا نستطيع أن نعرف علم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ومدى إيمانه بالله تعالى، لأن الرسول (صلّى الله عليه وآله) قال ـ في حديث صحيح ـ : يا علي لا يعرف الله إلا أنا وأنت، ولا يعرفني إلا الله وأنت، ولا يعرفك إلا الله وأنا.
ولا نستطيع أن نحدد علم الإمام ونحيط به، لأنه من علم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلم رسول الله من الله تعالى، وليس عن طريق الاكتساب والتحصيل بل بالإفاضة من عند الله تعالى، ونجد في القرآن الكريم طائفة كبيرة من الآيات البينات التي تصرح بأن علوم الأنبياء من عند الله تعالى عن طريق الإفاضة والإلقاء في القلب، ومعلوم: أن هذا النوع من العلم لا يشوبه شيء، ولا مجال للباطل إليه، بل هو الحق الصحيح الصدق المطابق للواقع، وإليكم بعض تلك الآيات: (وقل: رب زدني علماً)(2).
(فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً)(3).
(وزاده بسطة في العلم والجسم)(4).
(وكلاً آتيناه حكماً وعلماً)(5).
(ولوطاً آتيناه حكماً وعلماً)(6).
(ولقد آتينا داود وسليمان علماً)(7).
(فلما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً)(.
(إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي)(9).
(إذ قال الله يا عيسى بن مريم أذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً، وإذ علمتك الكتاب والحكمة)(10).
(وعلم آدم الأسماء كلها)(11).
(يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك)(12).
(ففهمناه سليمان)(13).
(ذلكما مما علمني ربي)(14).
(وأنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم)(15).
(وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء)(16).
(وإنه لذو علم لما علمناه)(17).
(إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله)(18).
إذا عرفتم ذلك فكيف نستطيع أن نعرف مقياس علوم الإمام ومستوى معارفه وثقافته الإلهية؟ وكيف نتمكن من الإحاطة بعلم باب مدينة علم الرسول (صلّى الله عليه وآله) والتلميذ الأول للرسول الأعظم الذي فرغ رسول الله علومه في صدر الإمام، وعلمه في وجبة واحدة ألف باب من العلم يفتح له من كل باب ألف باب؟.
وما يدري هل آسف على الإمام الذي ضاع قدره في ذلك العهد فلم يفسح له المجال ليبث للمسلمين شيئاً من علومه الإلهية ومعارفه الربانية؟ أم آسف على المسلمين الذين حرموا من ذلك المنهل العذب وهم بأمس الحاجة إلى العلم؟ فقد مضى خمس وعشرون سنة وعلي (عليه السلام) جليس بيته مسلوب الإمكانيات مكبوتاً عليه لا يستطيع تنوير العقول بعلومه وتزويد النفوس بمواهبه؟ قد نسمع أن بعض الغربيين يبدي أسفه على مكتبة الإسكندرية التي حكم عليها بالإحراق، وما ضاعت هناك من علوم وكنوز وأسرار وفنون وصارت طعمة للحريق، فلو كانت تلك العلوم في متناول البشر اليوم وقبل اليوم لكانوا في أرقى درجات الحضارة وأوج العظمة يتصرفون في تلك الكنوز ويعيشون في أوسع فضاء يستنشقون شتى العلوم ويتنعمون بتلك الثروة الفكرية التي كانت تساعدهم في التقدم بصورة مدهشة.
وسبب تأخر المسلمين خاصة والبشر عامة في خلال هذه القرون إنما هو من بركات ذلك العمل اللالإنساني!.
إن كان احتراق مكتبة تضم الكتب المتنوعة يوجب التأثر والتألم في نفوس هواة العلم ورواد الفضيلة مع العلم أن الكتب كانت صامتة لا ينتفع بها الأميون والذين لا يحسنون لغة تلك الكتب، فإن تجميد شخصية قد تمثلت وتجمعت فيها دوائر المعارف بكافة أنواعها وجميع أقسامها يؤسف له أكثر وأكثر، أليس من المؤسف أن تعيش أمة من الناس في الظلمات، وعندهم الضياء اللامع والسراج المنير الذي يضيء لهم الدروب والطرق وهم بأمس الحاجة إليه؟؟ وإذا بجماعة يحاولون إخفاء ذلك الضياء والحيلولة بينه وبين الإضاءة والإشراق، ويعجبهم أن يشاهدوا الناس محرومين عن الاستضاءة بأنوار ذلك القمر، وفعلاً وصلوا إلى ما أرادوا، وحكموا على المجتمع الإسلامي بالخيبة والحرمان من العلوم الإلهية وكنوز المعارف الربانية، وذلك حينما حكموا على علي (عليه السلام) بالاعتزال وسلبوه كل نشاط علمي، وضيقوا عليه المجال غاية التضييق خلال خمس وعشرين سنة ـ كما تقدم الكلام ـ .
وبعد أن وجد المجال وعادت إليه الإمكانيات واسترد ما سلب منه، وإذا بالحروب الداخلية والاضطرابات تحط من نشاطه العلمي وتبلبل فكره وتشغل قلبه، وتسلب القرار والاطمئنان من ذلك المجتمع، فينقلب النشاط العلمي إلى طاقة حربية، وتنقلب المعاهد الثقافية إلى معارك دامية ومجازر مشجية وما هنالك من نتائج وخيمة.
بالرغم من هذا كله فقد استطاع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يرفع أضوأ مشعل للعلم في سماء الثقافة والمعرفة، فهذا كتاب نهج البلاغة وهو جزء من أربعة وعشرين جزءاً من خطب الإمام وكلماته الحكمية ورسائله القيمة، وهذه الكمية هي التي حفظها التاريخ ولا تسأل عن الخطب والعلوم التي ضاعت ولم تلتقطها الأدمغة ولم تسجلها مسجلات التاريخ، فقد روي أن علياً (عليه السلام) خطب في الناس ـ يوماً ـ من بعد صلاة الصبح إلى قبيل الظهر، فكان الإمام يفيض على الخلائق العلوم بشتى أنواعها طيلة ست ساعات تقريباً.
والآن نذكر لكم ما تيسر من الأحاديث الواردة حول علوم الإمام ومدى سعة معلوماته الجمة: (في البحار) قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل القرآن حتى يزهر إلى الله ولحكمت بين أهل التوراة بالتوراة حتى يزهر إلى الله، ولحكمت بين أهل الإنجيل بالإنجيل حتى يزهر إلى الله، ولحكمت بين أهل الزبور بالزبور حتى يزهر إلى الله، ولولا آية في كتاب الله لأنبأتكم بما يكون حتى تقوم الساعة.
وقال علي (عليه السلام): لأنا أعلم بالتوراة من أهل التوراة وأعلم بالإنجيل من أهل الإنجيل.
عن الأصــبغ بن نـــباتة قال: لما قدم علي (عليه السلام) الكوفة صلى بــهم أربعين صباحاً فقرأ بهم: (سبح اسم ربك الأعلى)(19) فقال المنافقون: والله ما يحسن أن يقرأ ابن أبي طالب القرآن، ولو أحسن أن يقرأ لقرأ بنا غير هذه السورة، قال: فبلغه ذلك، فقال ويلهم! إني لأعرف ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، وفصاله من وصاله، وحروفه من معانيه، والله ما حرف نزل على محمد (صلّى الله عليه وآله) إلا وأنا أعرف فيمن أنزل وفي أي يوم نزل وفي أي موضع نزل، ويلهم أما يقرءون (إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى)(20) والله عندي، ورثتها من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وورثها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من إبراهيم وموسى، ويلهم! والله إني أنا الذي أنزل الله في: (وتعيها أذن واعية)(21) فإنا كنا عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيخبرنا بالوحي، فأعيه ويفوتهم، فإذا خرجنا قالوا: ماذا قال آنفاً؟.
عن عبابة بن ربعي قال: سمعت علياً (عليه السلام) يقول: سلوني قبل أن تفقدوني، ألا تسألون من عنده علم المنايا والبلايا والأنساب؟
عن الأصبغ بن نباته، قال: لما بويع أمير المؤمنين (عليه السلام) بالخلافة خرج إلى المسجد معتماً بعمامة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لابساً برديه، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وأنذر، ثم جلس متمكناً وشبك بين أصابعه ووضعها أسفل سرته، ثم قال: يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني فإن عندي علم الأولين والآخرين، أما والله لو ثني لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، حتى ينهى كل كتاب من هذه الكتب ويقول: يا رب إن علياً قضى بقضائك.
والله إني لأعلم بالقرآن وتأوليه من كل مدّعِ علمه، ولولا آية في كتاب الله تعالى لأخبرتكم بما يكون إلى يوم القيامة.
ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو سألتموني عن آية لأخبرنكم بوقت نزولها وفيم نزلت، وأنبأتكم بناسخها من منسوخها وخاصها من عامها، ومحكمها من متشابهها، ومكييها من مدنيها والله ما من فئة تضل أو تهدي إلا وأنا أعرف قائدها وسائقها وناعقها إلى يوم القيامة.
قال ابن عباس: علي علم علماً علمه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) علمه الله، فعلم النبي ـ صلوات الله عليه وآله ـ من علم الله، وعلم علي من علم النبي (صلّى الله عليه وآله) وعلمي من علم علي (عليه السلام)، وما علمي وعلم أصحاب محمد (صلّى الله عليه وآله) في علم علي إلا كقطرة في سبعة أبحر.
عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب قال له: يا أبا الحسن إنك لتعجل في الحكم والفصل للشيء إذا سئلت عنه! قال: فأبرز علي كفه وقال له: كم هذا؟ فقال عمر: خمسة، فقال عجلت: أبا حفص؟ قال: لم يخف علي، فقال علي (عليه السلام): وأنا أسرع فيما لا يخفى علي.
قال الصادق (عليه السلام) لابن أبي ليلى: أتقضي بين الناس يا عبد الرحمن؟ قال: نعم يا ابن رسول الله، قال: بأي شيء تقضي؟ قال: بكتاب الله.
قال: فما لم تجد، في كتاب الله؟ قال من سنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وما لم أجده فيهما أخذته عن الصحابة بما اجتمعوا عليه، قال: فإذا اختلفوا فبقول من تأخذ منهم؟ قال: بقول من أردت وأخالف الباقين، قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما تقول يوم القيامة إذا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: أي رب إن هذا بلغه عني قول فخالفه؟ قال: وأين خالفت قوله يا ابن رسول الله؟ قال: فبلغك أن رسول الله قال: أقضاكم علي (عليه السلام)؟ قال: نعم، قال: فإذا خالفت قوله ألم تخالف قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ فاصفر وجه ابن أبي ليلى وسكت.
عن الأصبغ بن نباتة وجماعة أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال بحضرة المهاجرين والأنصار ـ وأشار إلى صدره ـ كيف ملئ علماً لو وجدت له طالباً؟ سلوني قبل أن تفقدوني، هذا سفط العلم هذا لعاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هذا ما زقني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) زقاً، فاسألوني فإن عندي علم الأولين والآخرين أما والله لو ثنيت لي الوسادة..الخ.
وفي نهج البلاغة: (فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا نبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ومناخ ركابها ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً ويموت موتاً).
وعن سلمان أنه قال (عليه السلام): عندي علم المنايا والبلايا والوصايا والأنساب وفصل الخطاب، ومولد الإسلام ومولد الكفر، وأنا صاحب الميسم، وأنا الفاروق الأكبر، ودولة الدول فسلوني عما يكون إلى يوم القيامة، وعما كان قبلي وعلى عهدي وإلى أن يعبد الله.
علي (عليه السلام) والخطابة
ألا ترى إلى خطبه (عليه السلام) مثل: التوحيد والشقشقية والهداية والملاحم واللؤلؤة والغراء والقاصعة والافتخار والأشباح والدرة اليتيمة والأقاليم والوسيلة والطالوتية والقصبية والسلمانية والناطقة والدامغة والفاضحة، بل إلى نهج البلاغة عن الشريف الرضي، وكتاب خطب أمير المؤمنين عن إسماعيل بن مهران السكوني عن زيد بن وهب أيضاً، قال الرضي: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها ومنه ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها.
الجاحظ في كتاب الغرة: كتب علي (عليه السلام) إلى معاوية: غرّك عزّك، فصار قصار ذلك ذلك، فاخش فاحش فعلك فعلك تهدا بهدا.
وقال (عليه السلام): (من آمن أمن).
قال ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة:
وأما الفصاحة فهو (عليه السلام) إمام الفصحاء، وسيد البلغاء وعن كلامه قيل: هو (دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق) ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة.
قال عبد الحميد بن يحيى: حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثم فاضت.
وقال نباتة: حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلا سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب.
ولما قال محفن بن أبي محفن ـ لمعاوية ـ : (جئتك من عند أعيى الناس) قال له: ويحك! كيف يكون أعيى الناس؟! فو الله ما سن الفصاحة لقريش غيره.
ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة، ولا يبارى في البلاغة، وحسبك أنه لم يدون لأحد من فصحاء الصحابة العُشر ولا نصف العُشر مما دون له، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب (البيان والتبيين) وفي غيره من كتبه.
ومن خطبة له (عليه السلام) يذكر فيها بديع خلقة الخفاش
منها: ومن لطائف صنعته وعجائب خلقته ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء ويبسطها الظلام القابض لكل حي.
وكيف عشيت أعينها، عن أن تستمد من الشمس المضيئة نوراً تهتدي به في مذاهبها، وتتصل بعلانية برهان الشمس إلى معارفها، وردعها بتلألؤ ضيائها عن المضي في سبحات إشراقها، وأكنها في مكانها عن الذهاب في بلج ائتلاقها، فهي مسدلة الجفون بالنهار على أحداقها، وجاعلة الليل سراجاً تستدل به في التماس أرزاقها.
فلا يرد أبصارها إسداف ظلمته، ولا تمتنع من المضي فيه لغسق دجنته، فإذا ألقت الشمس قناعها، وبدت أوضاح نهارها، ودخل من إشراق نورها على الضباب في وجارها، أطبقت الأجفان على مآقيها، وتبلغت بما اكتسبت من فيء ظلم لياليها، فسبحان من جعل الليل لها نهاراً ومعاشاً، والنهار سكناً وقراراً، وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران كأنها شظايا الآذان، غير ذوان ريش ولا قصب، إلا أنك ترى مواضع العروق بينة أعلاماً، لها جناحان لم يرقا فينشقا، ولم يغلظا فيثقلا.
تطير وولدها لاصق بها، لاجئ إليها، يقع إذا وقعت، ويرتفع إذا ارتفعت.
لا يفارقها حتى تشتد أركانه، ويحمله للنهوض جناحه، ويعرف مذاهب عيشه ومصالح نفسه.
فسبحان البارئ لكل شيء على غير مثال خلا من غيره.
من خطبة له (عليه السلام) يذكر فيها عجيب خلقة الطاووس
ابتدعهم خلقاً من حيوان وموات، وساكن وذي حركات.
فأقام من شواهد البينات على لطيف صنعته وعظيم قدرته ما انقادت له العقول معترفة به..
ومسلمة له.
ونعقت في أسماعنا دلائله على وحدانيته وما ذرأ من مختلف طيور الأطيار التي أسكنها أخاديد الأرض وخروق فجاجها، ورواسي أعلامها.
من ذات أجنحة مختلفة، وهيئات متباينة، مصرفة في زمام التسخير ومرفرفة بأجنحتها في مخارق الجو المنفسح، والفضاء المنفرج.
كونها بعد أن لم تكن في عجائب صور ظاهرة، وركّبها في حقاق مفاصل محتجبة.
ومنع بعضها بعبالة خلقه أن يسمو في السماء خفوفاً، وجعله يدف دفيفاً.
ونسقها على اختلافها في الأصابيغ بلطيف قدرته ودقيق صنعته.
فمنها مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه.
ومنها مغموس في لون صبغ قد طوق بخلاف ما صبغ به ومن أعجبها خلقاً: الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل، ونضد ألوانه في أحسن تنضيد، بجناح أشرج قصبه، وذنب أطال مسحبه، إذا درج إلى الأنثى نشره من طيه، وسما به مطلاً على رأسه كأنه قلع داري عنجه نوتيه.
يختال بألوانه، ويميس بزيفانه، يفضي كأفضاء الديكة، ويؤر بملاحقةِ أرّ الفحول المغتلمة في الضراب.
أحيلك من ذلك على معاينة، لا كمن يحيل على ضعيف إسناده.
ولو كان كزعم من يزعم أنه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه فتقف في ضفتي جفونه وأن أنثاه تطعم ذلك، ثم تبيض لا من لقاح فحل سوى الدمع المنبجس لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب، تخال قصبه مداري من فضة وما أنبت عليها من عجيب داراته وشموسه خالص العقبان وفلذ الزبرجد فإن شبهته بما أنبتت الأرض قلت جني جني من زهرة كل ربيع.
وإن ضاهيته بالملابس فهو كموشي الحلل أو كمونق عصب اليمن.
وإن شاكلته بالحلي فهو كفصوص ذات ألوان قد نطقت باللجين المكلل، يمشي مشي المرح المختال، ويتصفح ذنبه وجناحيه فيقهقه ضاحكاً لجمال سرباله وأصابيغ وشاحه، فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا معولاً بصوت يكاد يبين عن استغاثته، ويشهد بصادق توجعه، لأن قوائمه حمش كقوائم الديكة الخلاسية وقد نجمت من ظنبوب ساقه صيصية خفية وله في موضع العرف قنزعة خضراء موشاة، ومخرج عنقه كالإبريق ومغرزها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال وكأنه متلفع بمعجر أسحم، إلا أنه يخيل لكثرة مائه وشدة بريقه أن الخضرة الناضرة ممتزجة به.
ومع فتق سمعه خط كمستدق القلم في لون الأقحوان أبيض يقق.
فهو ببياضه في سواد ما هنالك يأتلق.
وقل صبغ إلا وقد أخذ منه بقسط، وعلاه بكثرة صقاله وبريقه وبصيص ديباجه ورونقه، فهو كالأزاهير المبثوثة لم تربها أمطار ربيع ولا شموس قيظ.
وقد يتحسر من ريشه، ويعرى من لباسه، فبسقط تترى، وينبت تباعاً...
فينحت من قصبه انحتات أوراق الأغصان، ثم يتلاحق نامياً حتى يعود كهيئته قبل سقوطه.
لا يخالف سالف ألوانه، ولا يقع لون في غير مكانه.
وإذا تصفحت شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرة وردية، وتارة خضرة زبرجدية، وأحياناً صفرة عسجدية فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق الفطن، أو تبلغه قرائح العقول، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين وأقل أجزائه قد أعجز الأوهام أن تدركه، والألسنة أن تصفه.
فسبحان الذي بهر العقول عن وصف خلق جلاه للعيون فأدركته محدوداً مكوناً، ومؤلفاً ملوناً.
وأعجز الألسن عن تلخيص صفته، وقعد بها عن تأدية نعته.
وسبحان من أدمج قوائم الذرة والهمجة إلى ما فوقهما من خلق الحيتان والأفيلة.
ووأى على نفسه أن لا يضطرب شبح مما أولج فيه الروح إلا وجعل الحمام موعده والفناء غايته.
ومنها خطبتان له (ع) الأولى خالية من الألف والثانية خالية من النقط
إحداهما بلا ألف والأخرى بلا نقطة (الأولى) في المناقب روى الكلبي عن أبي صالح وأبو جعفر بن بابويه قدس سره بإسناده عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) أنه اجتمعت الصحابة فتذاكروا أن الألف أكثر دخولاً في الكلام فارتجل (عليه السلام) الخطبة المونقة وهي:
حمدت من عظمت منته وسبغت نعمته وسبقت رحمته غضبه، وتمت كلمته، ونفذت مشيئته، وبلغت قضيته، حمدته حمد مقر بربوبيته، متخضع لعبوديته، متنصل من خطيئته، متفرد بتوحده، مؤمل منه مغفرة تنجيه يوم يشغل عن فصيلته وبنيه، ونستعينه ونسترشده ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه وشهدت له شهود مخلص موقن، وفردته تفريد مؤمن متيقن، ووحدته توحيد عبد مذعن، ليس له شريك في ملكه ولم يكن له ولي في صنعه، جل عن مشير ووزير، وعن عون ومعين ونصير ونظير علم فستر، وبطن فخبر، وملك فقهر، وعصي فغفر، وحكم فعدل، لم يزل ولن يزول ليس كمثله شيء وهو بعد كل شيء، رب معتزز بعزته، متمكن بقوته، متقدس بعلوه متكبر بسموه ليس يدركه بصر، ولم يحط به نظر، قوي منيع، بصير سميع، رؤوف رحيم عجز عن وصفه من يصفه، وضل عن نعته من يعرفه، قرب فبعد، وبعد فقرب، يجيب دعوة من يدعوه، ويرزقه ويحبوه، ذو لطف خفي، وبطش قوي، ورحمة موسعة، وعقوبة موجعة، رحمته جنة عريضة مونقة، وعقوبته جحيم ممدودة موبقة، وشهدت ببعث محمد رسوله وعبده وصفيه ونبيه ونجيه وحبيبه وخليله، بعثه في خير عصر، وحين فترة، وكفر، رحمة لعبيده ومنه لمزيده، ختم به نبوته، وشيد به حجته، فوعظ، ونصح وبلغ وكدح، رؤوف بكل مؤمن رحيم، رضي ولي زكي، عليه رحمة وتسليم وبركة وتكريم، من رب غفور رحيم قريب مجيب، وصيتكم معشر من حضرني بوصية ربكم وذكرتكم بسنة نبيكم، فعليكم برهبة تسكن قلوبكم، وخشية تذري دموعكم، وتقية تنجيكم قبل يوم يبليكم ويذهلكم، يوم يفوز فيه من ثقل وزن حسنته، وخف وزن سيئته ولتكن مسألتكم وتملقكم مسألة ذل وخضوع، وشكر وخشوع، بتوبة ونزع، وندم ورجوع، وليغتنم كل مغتنم منكم صحته قبل سقمه، وشيبته قبل هرمه، وسعته قبل فقره، وفرغته قبل شغله، وحضره قبل سفره، قبل تكبر وتهرم وتسقم، يمله طبيبه ويعرض عنه حبيبه، ويقطع عمره ويتغير عقله، ثم قيل هو موعوك، وجسمه منهوك، ثم جد في نزع شديد، وحضره كل قريب وبعيد، فشخص بصره وطمح نظره، ورشح جبينه وعطف عرينه، وسكن حنينه، وحزنته نفسه، وبكته عرسه، وحفر رمسه، ويتم منه ولده، وتفرق منه عدده، وقسم جمعه، وذهب بصره وسمعه، ومدد وجرد وعري وغسل، ونشف وسجي، وبسط له وهيئ، ونشر عليه كفنه، وشد منه ذقنه، وقمص وعمم، وودع وسلم، وحمل فوق سرير، وصُلي عليه بتكبير، ونقل من دور مزخرفة، وقصور مشيدة، وحجر منجدة، وجعل في ضريح ملحود وضيق مرصود، بملبن منضود، مسقف بجلمود، وهيل عليه حفره، وحثي عليه قدره وتحقق حضره، ونسي خيره، ورجع عنه وليه، وصفيه ونديمه ونسيبه، وتبدل به قرينه وحبيبه، فهو حشو قبر، ورهين قفر، يسعى بجسمه دود قبره ويسيل صديده من منخره، يسحق برمته لحمه، وينشف دمه ويرم عظمه، حتى يوم حشره.
فنشر من قبره حين ينفخ في صور، ويدعى بحشر ونشور فثم بعثرت قبور، وحصلت سريرة صدور، وجيء بكل نبي وصديق وشهيد، وتوحد للفصل قدير، بعبده خبير بصير، فكم من زفرة تضنيه، وحسرة تنضيه، في موقف مهول، ومشهد جليل، بين يدي ملك عظيم وبكل صغير وكبير عليم، فحينئذ يلجمه عرقه، ويحصره قلقه، عبرته غير مرحومة، وصرخته غير مسموعة وحجته غير مقبولة، زاول جريدته، ونشر صحيفته، نظر في سوء عمله، وشهدت عليه عينه بنظره، ويده ببطشه، ورجله بخطوه، وفرجه بلمسه، وجلده بمسه، فسلسل جيده، وغلت يده، وسيق فسحب وحده، فورد جهنم بكرب وشدة فظل يعذب في جحيم، ويسقى شربة من حميم، تشوي وجهه وتسلخ جلده، وتضربه زبنيته بمقمع من حديد، ويعود جلده بعد نضجه كجلد جديد، يستغيث فتعرض عنه خزنة جهنم، ويستصرخ فيلبث حقبة يندم، نعوذ برب قدير، من شر كل مصير، ونسأله عفو من رضي عنه، ومغفرة من قبله، فهو ولي مسألتي، ومنجح طلبتي، فمن زحزح عن تعذيب ربه جعل في جنته بعزته وخلد في قصور مشيدة، وملك بحور عين وحفدة، وطيف عليه بكؤوس وسكن حظيرة قدس، وتقلب في نعيم، وسقي من تسنيم، وشرب من عين سلسبيل، ومزج له بزنجبيل، مختم بمسك وعبير، مستديم للملك، مستشعر للسرور، يشرب من خمور في روض مغدق ليس يصدع من شربه، وليس ينزف، هذه منزلة من خشي ربه، وحذر نفسه معصيته، وتلك عقوبة من جحد مشيئته، وسولت له نفسه معصيته، فهو قول فصل، وحكم عدل، وخبر قصص قص، ووعظ نص، تنزيل من حكيم حميد، نزل به روح قدس مبين، على قلب نبي مهتد رشيد، صلت عليه رسل سفرة مكرمون بررة، عذت برب عليم رحيم كريم من شر كل عدو لعين رجيم، فليتضرع متضرعكم وليبتهل مبتهلكم ويستغفر كل مربوب منكم لي ولكم وحسبي ربي وحده.
ثم ارتجل الإمام (عليه السلام) خطبة أخرى خالية من النقط وهي على نسختين (الأولى):
الحمد لله الملك المحمود، المالك الودود مصور كل مولود، ومآل كل مطرود، ساطح المهاد وموطد الأطواد، ومرسل الأمطار ومسهل الأوطار، عالم الأسرار ومدركها، ومدمر الأملاك ومهلكها، ومكور الدهور ومكررها، ومورد الأمور ومصدرها، عم سماحه وكمل ركامه، وهمل، وطاوع السؤال والأمل، وأوسع الرمل وأرمل، أحمده حمداً ممدوداً، وأوحده كما وحد الأواه، وهو الله لا إله للأمم سواه ولا صادع لما عدله وسواه أرسل محمداً علماً للإسلام وإماماً للحكام مسدداً للرعاع ومعطل أحكام ودٍّ وسواع، أعلم وعلم، وحكم وأحكم، وأصل الأصول، ومهد وأكد الموعود، وأوعد أوصل الله له الإكرام، وأودع روحه السلام، ورحم آله وأهله الكرام، ما لمع رائل وملع دال، وطلع هلال، وسمع إهلال، اعملوا رعاكم الله أصلح الأعمال واسلكوا مسالك الحلال، واطرحوا الحرام، ودعوه، واسمعوا أمر الله وعوه، وصلوا الأرحام وراعوها وعاصوا الأهواء واردعوها، وصاهروا أهل الصلاح والورع وصارموا رهط اللهو والطمع، ومصاهركم أطهرالأحرار مولداً وأسراهم سؤدداً، وأحلاهم مورداً، وها هو أمكم وحل حرمكم مملكاً عروسكم المكرمه وما مهر لها كما مهر رسول الله أم سلمه، وهو أكرم صهر أودع الأولاد وملك ما أراد وما سها مملكه ولا وهم ولا وكس ملاحمه ولا وصم، اسأل الله حكم أحماد وصاله، ودوام إسعاده، وألهم كلاً إصلاح حاله والأعداد لمآله ومعاده وله الحمد السرمد والمدح لرسوله أحمد.
(الثانية): في المناقب روى الكلبي عن أبي صالح وأبو جعفر بن بابويه بإسناده عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ارتجل خطبة أخرى من غير النقط التي أولها:
الحمد لله أهل الحمد ومأواه وأوكد الحمد وأحلاه وأسرع الحمد وأسراه وأطهر الحمد وأسماه وأكرم الحمد وأولاه ـ إلى آخرها.
ومنهم الشعراء وهو (عليه السلام) أشعرهم وذكر البلاذري في أنساب الأشراف أن علياً أشعر الصحابة وأفصحهم وأكتبهم.
في تاريخ البلاذري: كان أبو بكر يقول الشعر، وعمر يقول الشعر وعثمان يقول الشعر، وكان علي (عليه السلام) أشعر الثلاثة.
ومنهم الوعاظ وليس لأحد من الأمثال والعبر والمواعظ والزواجر ما له نحو قوله (عليه السلام): (من زرع العدوان حصد الخسران، من ذكر المنية نسي الأمنية، من قعد به العقل قام به الجهل، يا أهل الغرور ما ألهجكم بدار خيرها زهيد، وشرها عتيد، ونعيمها مسلوب، وعزيزها منكوب، ومسالمها محروب، ومالكها مملوك وتراثها متروك؟).
ومنهم الفلاسفة وهو (عليه السلام) أرجحهم، قال (عليه السلام): أنا النقطة أنا الخط، أنا الخط أنا النقطة، أنا النقطة والخط، فقال جماعة: إن القدرة هي الأصل، والجسم حجابه، والصورة حجاب الجسم، لأن النقطة هي الأصل، والخط حجابه ومقامه، والحجاب غير الجسد الناسوتي.
وسئل (عليه السلام) عن العالم العلوي فقال: صور عارية من المواد، عالية عن القوة و الاستعداد، تحلى لها فأشرقت، وطالعها فتلألأت، وألقى في هويتها مثاله فأظهر عنها أفعاله، وخلق الإنسان ذا نفس ناطقة.
إن زكاها بالعلم فقد شابهت جواهر أوائل عللها، وإذا اعتدل مزاجها وفارقت الأضداد فقد شارك بها السبع الشداد.
قال ابن سينا: لم يكن شجاعاً فيلسوفاً قط إلا علي (عليه السلام).
قال الشريف الرضي: من سمع كلامه (عليه السلام) لا يشك أنه كلام من قبع في كسر بيت أو انقطع في سفح جبل، لا يسمع إلا حسه، ولا يرى إلا نفسه، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب، مصلتاً سيفه، فيقطّ الرقاب ويجدل الأبطال، ويعود به ينطف دماً ويقطر مهجاً، وهو مع ذلك زاهد الزهاد وبدل الأبدال، وهذه من فضائله العجيبة وخصائصه التي جمع بها بين الأضداد.
ومنهم المنجمون وهو (عليه السلام) أكيسهم، قال سعيد بن جبير استقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) دهقان فقال له: يا أمير المؤمنين تناحست النجوم الطالعات وتناحست السعود بالنحوس فإذا كان مثل هذا اليوم وجب على الحكيم الاختفاء، ويومك هذا يوم صعب قد اقترن كوكبان، وانفكأ فيه الميزان، وانقدح من برجك النيران، وليس الحرب لك بمكان، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أيها الدهقان، المنبئ بالآثار، المخوف من الأقدار ما كان البارحة صاحب الميزان؟ وفي أي برج كان صاحب السرطان؟ وكم الطالع من الأسد والساعات في الحركات؟ وكم بين السراري والزراري؟ قال: سأنظر في الإسطرلاب فتبسم أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال له: ويلك يا دهقان أنت مسير الثابتات؟ أم كيف تقضي على الجاريات؟ وأين الأسد من المطالع؟ وما الزهرة من التوابع والجوامع؟ وما دور السراري المحركات؟ وكم قدر شعاع المنيرات؟ وكم التحصيل بالغدوات؟ فقال: لا علم لي بذلك يا أمير المؤمنين، فقال له: يا دهقان هل نتج علمك أن انتقل بيت ملك الصين، واحترقت دور بالزنج، وخمد بيت نار فارس وانهدمت منارة الهند، وغرقت سرانديب، وانقض حصن الأندلس، ونتج بترك الروم بالرومية؟؟ فخر الدهقان ساجداً فلما أفاق قال أمير المؤمنين (عليه السلام) ألم أروك من عين التوفيق؟ فقال: بلى، فقال: أنا وصاحبي لا شرقيون ولا غربيون، نحن ناشئة القطب وأعلام الفلك، أما قولك (انقدح من برجك النيران وظهر منه السرطان) فكان الواجب أن تحكم به لي لا علي، أما نوره وضياؤه فعندي، وأما حريقه ولهبه فذهب عني وهذا مسألة عقيمة احسبها إن كنت حاسباً.
فقال الدهقان: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنك علي ولي الله.
هذا وللإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) آراء ونظريات في التوحيد حول الإلهيات، كالصفات الثبوتية والسلبية، وما يتعلق بذلك وله كلام وبحث دقيق حول العلوم الكونية والطبيعية كالفلك والنجوم والسحاب والرعد والبرق وتكوُّن الأمطار وما شابه من المواضيع المتعلقة بالعالم الأعلى.
وله تحليل جليل حول الإنسان نطفة وجنيناً ورضيعاً ووليداً وشاباً وكهلاً وما يدور في هذا الفلك من علم النفس والفلسفة البشرية، وغير ذلك.
يظهر كل هذا من مطاوي كلماته وخطبه الموجودة في نهج البلاغة وغيره من كتب الحديث.
وتتميماً لهذا البحث نذكر كلام ابن الحديد في هذا الموضوع، قال: وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي، لأن شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف العلوم، ومن كلامه (عليه السلام) اقتبس، وعنه نقل، وإليه انتهى ومنه ابتدأ.
فإن المعتزلة الذين هم أهل التوحيد والعدل، وأرباب النظر، ومنهم تعلم الناس هذا الفن ـ تلامذته وأصحابه، لأن كبيرهم واصل بن عطا تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذه (عليه السلام).
وأما الأشعرية فإنهم يضمون إلى أبي الحسن بن أبي بشير الأشعري وهو تلميذ أبي علي الجبائي، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة، فالأشعرية ينتهون بالآخرة إلى أستاذ المعتزلة ومعلمهم، وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام).
وأما الإمامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر.
ومن العلوم: علم الفقه، وهو (عليه السلام) أصله وأساسه، وكل فقيه في الإسلام فهو عيال عليه، ومستفيد من فقهه.
أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد وغيرهما فأخذوا عن أبي حنيفة.
وأما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن فيرجع فقهه إلى أبي حنيفة، وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد (عليه السلام)، وجعفر قرأ على أبيه، وينتهي الأمر إلى علي (عليه السلام).
وأما مالك فقرأ على ربيعة الرأي، وقرأ ربيعة على عكرمة، وقرأ عكرمة على عبد الله بن عباس، وقرأ عبد الله بن عباس على علي بن أبي طالب (عليه السلام).
وإن شئت رددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان ذلك لك، فهؤلاء الفقهاء الأربعة.
أما فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر، وأيضاً فإن فقهاء الصحابة كانوا عمر بن الخطاب وابن عباس، وكلاهما أخذ عن علي (عليه السلام).
أما ابن عباس فظاهر، وأما عمر فقد عرف كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة، وقوله غير مرة: لولا علي لهلك عمر وقوله: لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن، وقوله: لا يفتين أحد في المسجد وعلي حاضر.
فقد عرف بهذا الوجه انتهاء الفقه إليه.
وقد روت العامة والخاصة قوله (صلّى الله عليه وآله) أقضاكم علي والقضاء هو الفقه، فهو إذن أفقههم.
وروى الكل أيضاً أنه (صلّى الله عليه وآله) قال له ـ وقد بعثه إلى اليمن قاضياً ـ : اللهم اهد قلبه، وثبت لسانه.
قال: فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين.
وهو (عليه السلام) الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستة أشهر، وهو الذي أفتى به في الحامل الزانية، وهو الذي قال في المنبرية: صار ثمنها تسعاً.
وهذه المسألة لو فكر الفرضي فيها فكراً طويلاً لاستحسن منه بعد طول النظر ـ هذا الجواب، فما ظنك بمن قاله بديهة واقتضبه ارتجالاً؟ ومن العلوم: علم تفسير القرآن، وعنه أخذ، ومنه فرع، وإذا راجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك، لأن أكثره عنه، وعن عبد الله بن عباس، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته وانقطاعه إليه، وأنه تلميذه وخريجه، وقيل له: أين علمك من علم ابن عمك؟ فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط...
ومن العلوم: علم النحو والعربية، وقد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه وأنشأه وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه وأصوله ومن جملتها: الكلام كله ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف.
ومن جملتها تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة، وتقسيم وجوه الإعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم، وهذا يكاد يلحق بالمعجزات، لأن القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر، ولا تنهض بهذا الاستنباط.
(1) سورة الزمر، الآية: 9.
(2) سورة طه، الآية: 114.
(3) سورة الكهف، الآية: 65.
(4) سورة البقرة، الآية: 247.
(5) سورة الأنبياء، الآية: 79.
(6) سورة الأنبياء، الآية: 74.
(7) سورة النمل، الآية: 15.
( سورة القصص، الآية: 14.
(9) سورة الأعراف، الآية: 144.
(10) سورة المائدة، الآية: 110.
(11) سورة البقرة، الآية: 31.
(12) سورة مريم، الآية: 43.
(13) سورة الأنبياء، الآية:79.
(14) سورة يوسف، الآية: 37.
(15) سورة النساء، الآية: 113.
(16) سورة البقرة، الآية: 251.
(17) سورة يوسف، الآية: 68.
(18) سورة النساء، الآية: 105.
(19) سورة الأعلى، الآية: 1.
(20) سورة الأعلى، الآيتان: 18 و19
(21) سورة الحاقة، الآية: 12.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى