مسؤولية دم الإمام الحسين سلام الله عليه
صفحة 1 من اصل 1
مسؤولية دم الإمام الحسين سلام الله عليه
http://www.14masom.com/tmp/malaf_ashora_2009/pix لقد ضحّى الإمام الحسين سلام الله عليه بكلّ ما يملك في سبيل الله تعالى، وكان بذله سلام الله عليه استثنائياً ومتميّزاً، فأعطاه الله سبحانه وميّزه في عطائه بما يتناسب وبذله الذي لم يكن لأحد لا من قبله ولا من بعده. لقد أعطى الله تعالى للإمام الحسين سلام الله عليه امتيازات لم يعطها أحداً قطّ حتى أولئك الذين هم أفضل من الحسين سلام الله عليه(1)، وهم جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله وأبوه المرتضى وأمّه الزهراء وأخوه المجتبى سلام الله عليهم أجمعين وهذا الأمر ملحوظ في الأدعية والزيارات كثيراً(2).
في زيارة للإمام الحسين سلام الله عليه يرويها ابن قولويه القمّي رحمه الله(3) في كتابه «كامل الزيارات»(4)؛ عن الإمام الصادق سلام الله عليه مخاطباً جدّه الإمام الحسين سلام الله عليه: وضمَّن ـ أي الله تعالى ـ الأرض ومَن عليها دمك وثارك(5).
يمكنني القطع أنّه لم يرد مثل هذا التعبير في الأدعية والزيارات المرويّة عن أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين بمثل ما ورد هنا بحقّ الإمام الحسين سلام الله عليه، وقد حار العلماء في تفسيرها، ومنهم العلامة المجلسي الذي نقل هذه الزيارة في كتابه «بحار الأنوار» عن ابن قولويه.
لنستطلع أوّلاً معاني مفردات هذه الجملة وأوّلها مفردة «ضمّن».
أقول: الضمان هو أحد أبواب الأحكام العملية الشرعية وقد وقع الخلاف بين الشيعة ومخالفيهم في تحديد صيغته والعمل بمقتضاه. فالمشهور بين علماء العامة أنّه «ضمّ ذمّة إلى ذمّة»، أمّا مشهور الشيعة فيقولون: إنّ الضمان «نقل ذمّة إلى ذمّة». وتوضيحهما:
لو كان في ذمّة زيد مال لعمرو بسبب دَين مثلاً، وضمن بكر زيداً لدى عمرو، فحسب مشهور الشيعة للضمان، لا يحقّ لعمرو بعد ذلك مطالبة زيد بالمال لأنّ الذمّة قد انتقلت إلى بكر وهو المطالَب حينئذ. أما حسب المشهور بين العامّة فإن عمراً يمكنه أن يطالب زيداً وبكراً كليهما، وحقّه بمطالبة كل منهما ينتفي لو وفّى له أحدهما، فيكون الضامن ـ على كلا الرأيين ـ مسؤولاً أمام صاحب الحقّ، سواء بانتقال المسؤولية إليه وحده، أم بالاشتراك مع المستفيد من ذلك الحقّ.
فالظاهر من عبارة الإمام الصادق سلام الله عليه في قوله وضمّن الأرض ومَن عليها هو: أنّ الله سبحانه وتعالى ألقى على الأرض ومَن عليها مسؤولية دم الحسين سلام الله عليه، لأنّ ذلك الدم الطاهر أُريق عليها، فأصبح بذمّتها وذمّة مَن عليها فصارت بذلك هي ومَن عليها الضامن والمسؤول عن دم الحسين سلام الله عليه.
لا إشكال أنّ العدل الالهي يعدّ أصلاً من أصول الدين عند أتباع آل البيت سلام الله عليهم، والذي يعني أنّ الله منَزّه عن الظلم. وهذا يستلزم أن كل ما يرد في روايات أهل البيت سلام الله عليهم لا بد أن ينسجم مع منطق العدل الإلهي، وكلّ تفسير يتعارض مع العدل الإلهي أو ينافيه فهو مرفوض سلفاً جملة وتفصيلاً.
ههنا يقول النص إنّ الله ضمّن الأرض أي الأرض كلّها، فليس في العبارة ما يصرف لفظة الأرض عن معناها العام إلى بقعة بعينها، مع العلم أنّ كلمة «كربلاء» وهي الأرض التي أُريق عليها دم الحسين سلام الله عليه موجودة في الروايات والزيارات الأخرى كثيراً، وكذلك كلمة «الكوفة» وهي الأرض التي خرجت منها الجيوش لقتل الحسين سلام الله عليه. ولكن عندما نراجع هذه الزيارة نرى كلمة «الأرض» وردت بإطلاقها، بل يقول النص: وضمّن الأرض ومَن عليها. أي الأرض وكلّ من عليها وهم كلّ البشر الذين سكنوا الأرض من أوّل الدنيا إلى آخرها.
يقول العلاّمة المجلسي رضوان الله عليه: لعلّ المقصود بـ (مَن عليها): الملائكة والجنّ(6).
ولكن قد يقال: ولماذا الملائكة والجنّ فقط؟ بل البشر وكلّ شيء أوعز إليه التسبيح لله تعالى أيضاً، لأنّ (مَن) ههنا موصولة وهي ظاهرة في العموم كما هو المشهور بين علماء اللغة والأصول. فتكون معنى العبارة: أنّ الله تعالى ألقى مسؤولية دم الحسين سلام الله عليه على الكرة الأرضية وكلّ مَن عليها. وحقَّ للعلماء أن يحاروا في توجيه هذه العبارة التي وردت عن الإمام الصادق سلام الله عليه وهو لا يقول ـ حاشاه ـ كلمات غير مفهومة؛ لأنه من أهل البيت سلام الله عليهم الذين هم القمّة في البلاغة ناهيك عن عصمتهم ودقّتهم في كلّ الأمور؛ فلماذا يقول الإمام سلام الله عليه أن الله تعالى جعل دم الحسين في ذمّة الأرض؟ ما شأنها؟ هل هي قتلت الحسين سلام الله عليه؟ وإذا كان المقصود بكلمة الأرض هنا كربلاء فنحن نعلم أن الله تبارك وتعالى رفع شأنها بالإمام الحسين سلام الله عليه حتى جعلها أشرف من الكعبة ـ وهذه من جملة العطاءات الاستثنائية التي خصّ بها الإمام الحسين سلام الله عليه ـ ولكن الإمام سلام الله عليه لم يخصص أرض كربلاء بل قال: ضمّن الأرض. أي كلّ الأرض، فإذا كان الإمام الحسين سلام الله عليه قد قُتل على بقعة من الأرض فلماذا حمّل الله الأرض كلها مسؤولية ذلك الدم الطاهر؟
أجل، حار العلماء في فهم كلام الإمام الصادق سلام الله عليه في هذه الزيارة، فقال جماعة: بما أنّه قُتل الإمام الحسين سلام الله عليه على الكرة الأرضية فإنّ الله تعالى جعلها كلها مسؤولة عن تعذيب قتلة الحسين سلام الله عليه وخاذليه حيثما دُفنوا وفي أيّ بقعة منها! وهذا هو ضمان الله على الأرض، وهو مائز ميّز الله تعالى به الحسين سلام الله عليه وخصيصة خصّه بها، وكشف عنها الإمام الصادق سلام الله عليه. أما كيف تنفّذ الأرض هذا التكليف الإلهي فهذا ليس من شأننا معرفته، وهي تعرف تكليفها ونحن يكفي أن نعرف في المقام أنها مكلّفة وأنها تؤدّي تكليفها؛ (قالتا أتينا طائعين)
النقطة الأخرى الجديرة بالتأمّل في كلمات الإمام الصادق سلام الله عليه في هذه الزيارة قوله: «ومن عليها». وهذا يكشف أننا نحن أيضاً وآباؤنا وأبناؤنا وأجيالنا اللاحقة ممن سيعيش على هذه الأرض، جميعاً مسؤولون عن دم الحسين سلام الله عليه والثار له، فأنا وأنت بذمّتنا دمه وكذا من يعيش اليوم وغداً في أقصى نقاط العالم. والسؤال: نحن لم نكن موجودين في زمن بني أمية ولا شهدنا مقتل الحسين سلام الله عليه فكيف نكون مسؤولين وعمّ؟ بل الإمام الصادق سلام الله عليه نفسه لم يكن موجوداً في زمن جدّه ولا رأى مقتله، ولو شهد لنصره فكيف يقول إذن: ضمّن الأرض ومن عليها دمك وثارك؟
إذن لابدّ أن يكون لذلك معانٍ أخرى فلنحاول الوقوف عليها.
عبرات الامام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في زيارة الإمام الحسين سلام الله عليه المعروفة بزيارة الناحية ـ
فقرات من زيارة الناحية المقدّسة
من كلام لبقية الله الأعظم الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف في زيارة الإمام الحسين سلام الله عليه المعروفة بزيارة الناحية ـ والمؤمَّل أن بعضكم قرأها اليوم أو في بقية أيام السنة ـ يخاطب الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف فيها جدّه سيد الشهداء سلام الله عليه بعد شهادته قائلاً: «فلما رأين النساء جوادك مخزياً» أي عليه علامات الانكسار، مطأطئاً رأسه حزيناً لعدم تمكنه من مساعدة أبي عبد الله سلام الله عليه، فإن الإمام الحجة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف يصف جواد الإمام الحسين حين وصوله إلى المخيم بلا فارس، وكأنه يحسّ بالتقصير بسبب عجزه عن إغاثة مولاه الإمام الحسين سلام الله عليه، ومع ذلك فقد أسرع إلى عياله ليخبرهم بالفاجعة العظيمة.
يقول الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف: «فلما رأين النساء جوادك مخزياً ونظرن سرجك عليه ملويّاً» والسرج ما يوضع على الفرس لجلوس الراكب، ويوثق بالجواد بكلّ استحكام لئلا يقع الراكب من الفرس حين عَدْوه، وإذا ما وقع الفارس من جواده دون اختياره يلتوي السرج إلى الأسفل. وهذا ما يشير إليه مولانا صاحب العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف، أي: لمّا سمع أهل البيت سلام الله عليهم صهيل جواد الإمام الحسين سلام الله عليه خرجن من الخدور فنظرن إلى الجواد وإذا بسرجه ملوي فعرفن من حالة الجواد ما جرى على أبي عبد الله سلام الله عليه. ويصف الإمام الحجة سلام الله عليه حالة النساء فيقول: «فبرزن من الخدور ناشرات الشعور». أما الخدور جمع خدر، والخدر ـ في اللغة العربية ـ ما يُتوارى به، ومنه اُطلق على الستر الذي يُمدّ للجارية في ناحية البيت. والخادر: كل شيء منع بصراً فقد أخدره، ولذلك يُطلق على الظلمة خِدراً، فالخدر هو الستر الذي لا يكشف؛ فيكون معنى هذه العبارة: أن بنات الرسالة قد خرجن من خبائهن الشديد الستر!
نشر الشعور في المصاب الجلل
أما قوله عجل الله تعالى فرجه الشريف: «ناشرات الشعور» فيمكن تصويره كالتالي:كان من المتعارف عند العرب سابقاً أن المرأة إذا فقدت عزيزاً عليها تبقى بقية عمرها محزونة لمصابه، محرومة حتى من البسمة والضحكة لفقده، فإنها في ظروف كهذه تفتح ضفيرتها داخل الستر والحجاب كعلامة لشدة المصيبة ـ وهذه العادة موجودة في العراق أيضاً وربما في مناطق عربية أخرى ـ وليس المراد من العبارة كما يتصور البعض أن العلويات خرجن من الستر ورؤوسهن مكشوفة والعياذ بالله. إذن: معنى «ناشرات الشعور» هو: إن العلويات فتحن ظفائرهن تحت المقانع لشدة المصاب، بعد أن ربطن المقانع على رؤوسهن بإحكام امتثالاً لأمر سيد الشهداء سلام الله عليه، فقد أوصاهن بذلك لكي لا يذهلن عن حجابهن من شدة المصيبة وعظمة الفاجعة ثم يقول الإمام بعد ذلك مصوّراً حالة العلويات: «على الخدود لاطمات وبالعويل داعيات».
حقّاً: إن كلّ كلمة في هذه الزيارة تعبّر عن مصيبة عظيمة، فتارة يدعو الإنسان شخصاً، وأخرى يناديه برفيع صوته، وكلاهما لا يقال له عويل، إنما يكون العويل حينما يبكي الإنسان ويصيح برفيع صوته، وهذا معناه أن العلويات خرجن من المخيَّم إلى مصرع سيد الشهداء ـ والمسافة ليست بعيدة ـ وهنّ مهرولات باكيات يصرخن بأصواتهن مناديات: وامحمداه، واعلياه، وافاطمتاه، واحسيناه، واجعفراه، واحمزتاه... ولسان حالهن: يارسول الله إحضَر اليوم في كربلاء، وانظر ما جرى علينا، وأنت يا أبتاه يا أمير المؤمنين احضر وانظر حالنا. ثم إنه سلام الله عليه قال: «وإلى مصرعك مبادرات» فقد تسابقت العلويات صغارهن وكبارهن إلى مصرع سيد الشهداء سلام الله عليه ولا أعلم لماذا أسرعن؟ فربما أسرعن ليدركن لحظة من حياة أبي عبد الله الحسين سلام الله عليه أو أسرعن لشدة اللوعة أو لغير ذلك.
الأحداث المأساوية
في مثل هذا اليوم ـالعاشر من المحرّم ـ عصراً أرسل عمر بن سعد الرؤوس الشريفة نحو الكوفة، وبات هو وجماعته وكذلك بات أهل البيت في كربلاء، وفي ظهر اليوم الثاني سيقت العلويات من كربلاء إلى الكوفة، والمسافة ـ كما ينقل المؤرخون ـ ثلاثة منازل أي ما يعادل ثلاثة أيام، إلا إذا حثّ الإنسان في سيره فيمكنه أن يبلغها أسرع.
لقد أمر ابن سعد ـ كما روى المؤرخون، ومنهم صاحب البحار ـ أن تتحرك قافلة الأسارى عصر يوم الحادي عشر نحو الكوفة فوصلت إليها صباح اليوم الثاني عشر؛ مما يدلّ على شدة السرعة التي سيقت بها.
وقد أشار بقية الله الأعظم عجّل الله تعالى فرجه الشريف إلى حال سبي العلويات مخاطباً جده سيد الشهداء سلام الله عليه قائلاً: «وسُبي أهلك كالعبيد» فقد قادهن القوم كما كان المشركون يقودون عبيدهم لا كما كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وأمير المؤمنين سلام الله عليه والإمام الحسين سلام الله عليه يعاملون الأسرى بعزّة وإجلال، وكرامة واحترام.
لقد خرج المشركون لمقاتلة رسول الله صلّى الله عليه وآله وقصدوا بذلك قتله، وعندما اُسر بعضهم في إحدى المعارك لم يستطع النبي صلّى الله عليه وآله أن ينام طيلة تلك الليلة بسبب أنين واحد منهم، أما بنو أمية فقد أسروا ذرّيته ولم يرقّوا لحالهم أبداً.
بنات الوحي في الأسر
ثم قال عجّل الله تعالى فرجه الشريف في الزيارة: «وسبي أهلك كالعبيد وصفّدوا في الحديد» والصفد هو أن تغلّ يدا الإنسان إلى عنقه أو إلى الخلف بالأغلال وتجعل القيود حول جسده ثم تقفل، هكذا ساقوا أهل البيت سلام الله عليهم من كربلاء إلى الكوفة في ليلة واحدة، فقد قيّد أتباع يزيد العلويات بالأغلال بما فيهم العلويات الصغار والأطفال، وكان من ضمنهم الإمام الباقر سلام الله عليه وطفلان للإمام المجتبى سلام الله عليه، فضلاً عن الإمام السجاد سلام الله عليه.
أمّا الحالة التي سيقت بها قافلة الأسارى فقد أشار إليها الإمام الحجّة سلام الله عليه فقال: «فوق أقتاب المطيات» فإن الذي يركب الفرس أو الحمار أو غيرها من الدوابّ لا يحتاج إلى محمل أو غيره لأن ظهور هذه الحيوانات مستوية فلو وضع على ظهرها قماش وما أشبه يكون أفضل، أما بالنسبة للجمل والنياق فالأمر يختلف؛ لأن أظهرها غير مستوية، ولذلك يضعون عليها القتب ويربطونها جيداً لئلا يقع الراكب ثم يضعون على الأقتاب الهودج أو القبّة، على اختلاف أشكالها الدائرية وغيرها.
يُنقل أن ابن سعد اتخذ لنفسه وأصحابه هوادج أمّا نياق وجمال أهل البيت سلام الله عليهم فكانت مجردة وكان الأطفال والعلويات يُسيَّرون على النياق الحاسرة، وهذا هو مراد الإمام الحجة عجّل الله تعالى فرجه الشريف في زيارة جده سيد الشهداء سلام الله عليه حين قال: «على أقتاب المطيات».
ولو لاحظتم «بحار الأنوار» للعلامة المجلسي تجدونه يعبّر عن حال أهل البيت بما فيهم النساء والأطفال قائلاً: وأفخاذهم تشخب دماً. فمن الطبيعي أن الجمال حينما تجدّ في السير والعلويات مع الأطفال على هذه الحالة على أخشاب مجرّدة بدون فرش مقيّدين، تشخب أفخاذهم دماً؛ والحال أن الظالم يريد إيصالهم إلى الكوفة بأسرع وقت.
الأسر مع السلاسل والأغلال
ثم إن بقية الله الأعظم يخاطب جده سلام الله عليه قائلاً:«وأيديهم مغلولة إلى الأعناق».
ولو لاحظتم كتاب «البحار» أيضاً تجدون أن عمر الإمام السجاد صلوات الله عليه كان آنذاك فوق العشرين سنة أي إنه كان شابّاً ولم يكن حَدثاً لأن عمر الإمام الباقر سلام الله عليه حينذاك كان خمس سنين، وهذا معناه أن عمر الإمام السجاد سلام الله عليه كان فوق العشرين. وكما تعلمون إن رجال بني هاشم كانوا عظيمي الهياكل أقوياء، إلا أن العلامة المجلسي ينقل أن ابن زياد أمر أحد الشرطة ـ وآهٍ من شرطة الظلمةـ أن يذهب ويرى الإمام السجاد سلام الله عليه فإن كان بالغاً قطع رأسه؛ ممّا يدلّ على أنه سلام الله عليه قد نحل بدنه وذاب جسمه إلى هذه الدرجة؛ كلّ ذلك لعظم المصائب التي رآها في كربلاء والطريق والكوفة.
وفي التاريخ أن أوداج الإمام السجاد سلام الله عليه كانت تشخب دماً من أثر الأغلال والقيود التي قيّدوه بها طيلة المسير. فمن عصر اليوم الحادي عشر إلى صباح اليوم الثاني عشر كان الأعداء يسيرون بأهل البيت سلام الله عليهم مقيَّدين والدماء تنزف منهم.
حزن الإمام على جدّه سلام الله عليهما
ثم إن إمام العصر سلام الله عليه خاطب جده سيد الشهداء سلام الله عليه قائلاً: «لأندبنك صباحاً ومساءً» فالندبة هي البكاء مع العويل والصراخ.
فأين تكون هذه الندبة من الإمام الحجة سلام الله عليه لجدّه المظلوم؟ أفي الصحراء أم غيرها؟ وماذا يتذكر الإمام الحجة سلام الله عليه؟ وأي مصيبة من مصائب جدّه يستحضر بحيث إنه لا يفتر ولا يبرد لا شتاءً ولا صيفاً؟! إن الإنسان المفجوع قد يهدأ ويبرد تدريجياً، أمّا الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف فلا يهدأ أبداً بل يندب جدّه ليل، نهار.
ثم إنه سلام الله عليه قال: «ولأبكين عليك بدل الدموع دماً» فإنه ربما يقال: الدمع ـ الذي هو بخار الدم في عروق المقلة ـ إذا تدفّق بكثرة، قلل من قابلية تبخّر رطوبات الدم، فيجري الدم نفسه من عروق الأجفان، أو أن الشرايين الدقيقة في الأجفان تتمزّق فيهمي منها الدم.
ويقال: إن مستودع الدم الذي هو مصدر الدمع ومنبعه، يشبه الكيس الموجود خلف العينين، فإذا جرح يتحوّل الدم الذي فيه إلى دموع، فلو بكى الإنسان كثيراً وبشدّة تحول بكاؤه على أثر جفاف الدمع إلى دم.
الجدير بالذكر أن الإنسان تارة يفقد عزيزاً له فيبكي عليه يوماً أو يومين أو أسبوعاً بشدة فتخرج من عينيه قطرة من الدم؛ فإن منبع الدمع عندما يفقد قدرته على بثّ الدموع يتحول البكاء بالدمع إلى دم وتنزل من الإنسان قطرة أو قطرتان من الدم. إلا أن إمام العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف يخاطب جده ولسان حاله: سأبكي عليك يا جدّاه بكاءً شديداً متواصلاً حتى تجفّ دموعي وتتحوّل دماً. وهذا معناه أن الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف يبكي على الإمام الحسين سلام الله عليه دماً كلَّ يوم وليس فقط يوم عاشوراء؛ إذ إن مصيبة سيد الشهداء وأهل بيته مصيبة استثنائية وشاءت إرادة السماء أن لا يكون لها نظير في الكون منذ الأزل وإلى يوم يبعثون.
المصدر :
(1) وهذا ـ كما لا يخفى ـ لا يعني أنهم صلوات الله عليهم دونه في البذل في سبيل الله تعالى، كيف وهم نور واحد، وهم أفضل منه، كما صرّح الحسين سلام الله عليه نفسه في كربلاء حين قال: جدّي خير مني وأبي خير منّي وأمّي خير منّي وأخي خير منّي، ولكن التضحية التي قيّضت للحسين سلام الله عليه كانت أعظم وكانت استثنائية فخصّه الله تعالى بعطاء فريد واستثنائي، ولو قيّض لأيّ منهم ما قيّض له من التضحية لما اختلف الحال قيد شعرة.
كما لا يخفى أنّ ما لاقاه رسول الله صلى الله عليه وآله والإمام أمير المؤمنين والصديقة الزهراء والسبط المجتبى سلام الله عليهم جميعاً لم يكن بالأمر الهيّن، فلشدّ ما عانى النبي صلى الله عليه وآله حتى قال: ما أوذي نبي مثل ما أوذيت (مناقب آل أبي طالب للمازندراني: 3/ 42) ومن يراجع خطبة أمير المؤمنين سلام الله عليه المعروفة بـ «الشقشقية» وخطبة فاطمة الزهراء سلام الله عليها في الأنصار والمهاجرين بعد غصبها حقّها في فدك وخطبة الإمام الحسن سلام الله عليه في الناس بعد خذلان عسكره له، يدرك مدى الأذى والضيم الذي لحقهم واغتصاب حقوقهم إلى غير ذلك من المآسي والآلام؛ ولكن ـ كما قال الإمام الحسن سلام الله عليه ـ : لا يوم كيومك يا أبا عبد الله. (أمالي الصدوق: 177)
(2) فضلاً عما روي في هذا الشأن من الأخبار، فقد روي عن ابن عباس أنّه قال: أوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلّم: إنّي قتلت بيحيى بن زكريا سبعين الفاً، وإنّي قاتل بابن بنتك سبعين ألفاً، وسبعين ألفاً (بحار الأنوار: 45/ 298؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم: 2/ 290، 592 و 3/ 178، لسان الميزان لابن حجر: 4/ 457 رقم 1411، تهذيب التهذيب له: 2/ 5305، تفسير القرطبي: 10/ 219، تفسير الدر المنثور للسيوطي: 4/ 264 ـ مورد الآية: 5 من سورة الإسراء). إلى غير ذلك من الامتيازات التي تفرّد بها الإمام الحسين سلام الله عليه.
(3) وابن قولويه هذا (ت: 368 هـ) هو أستاذ الشيخ المفيد رضوان الله عليهما، فالشيخ المفيد يروي عن الكليني بواسطته، والشيخ القمّي رحمه الله مدفون في الكاظمية في الرواق الشريف وفي محاذاة تلميذه الشيخ المفيد.
(4) اعتبره جماعة من فقهاء الشيعة ومحدّثيهم من أصحّ كتب الطائفة.
(5) كامل الزيارات لابن قولويه: 385 ح17 الباب 79 زيارات الإمام الحسين بن علي عليهما السلام.
(6) راجع بحار الأنوار: 98 / 170.
/10/sdsdsdsdsd55%20(26).jpg
في زيارة للإمام الحسين سلام الله عليه يرويها ابن قولويه القمّي رحمه الله(3) في كتابه «كامل الزيارات»(4)؛ عن الإمام الصادق سلام الله عليه مخاطباً جدّه الإمام الحسين سلام الله عليه: وضمَّن ـ أي الله تعالى ـ الأرض ومَن عليها دمك وثارك(5).
يمكنني القطع أنّه لم يرد مثل هذا التعبير في الأدعية والزيارات المرويّة عن أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين بمثل ما ورد هنا بحقّ الإمام الحسين سلام الله عليه، وقد حار العلماء في تفسيرها، ومنهم العلامة المجلسي الذي نقل هذه الزيارة في كتابه «بحار الأنوار» عن ابن قولويه.
لنستطلع أوّلاً معاني مفردات هذه الجملة وأوّلها مفردة «ضمّن».
أقول: الضمان هو أحد أبواب الأحكام العملية الشرعية وقد وقع الخلاف بين الشيعة ومخالفيهم في تحديد صيغته والعمل بمقتضاه. فالمشهور بين علماء العامة أنّه «ضمّ ذمّة إلى ذمّة»، أمّا مشهور الشيعة فيقولون: إنّ الضمان «نقل ذمّة إلى ذمّة». وتوضيحهما:
لو كان في ذمّة زيد مال لعمرو بسبب دَين مثلاً، وضمن بكر زيداً لدى عمرو، فحسب مشهور الشيعة للضمان، لا يحقّ لعمرو بعد ذلك مطالبة زيد بالمال لأنّ الذمّة قد انتقلت إلى بكر وهو المطالَب حينئذ. أما حسب المشهور بين العامّة فإن عمراً يمكنه أن يطالب زيداً وبكراً كليهما، وحقّه بمطالبة كل منهما ينتفي لو وفّى له أحدهما، فيكون الضامن ـ على كلا الرأيين ـ مسؤولاً أمام صاحب الحقّ، سواء بانتقال المسؤولية إليه وحده، أم بالاشتراك مع المستفيد من ذلك الحقّ.
فالظاهر من عبارة الإمام الصادق سلام الله عليه في قوله وضمّن الأرض ومَن عليها هو: أنّ الله سبحانه وتعالى ألقى على الأرض ومَن عليها مسؤولية دم الحسين سلام الله عليه، لأنّ ذلك الدم الطاهر أُريق عليها، فأصبح بذمّتها وذمّة مَن عليها فصارت بذلك هي ومَن عليها الضامن والمسؤول عن دم الحسين سلام الله عليه.
لا إشكال أنّ العدل الالهي يعدّ أصلاً من أصول الدين عند أتباع آل البيت سلام الله عليهم، والذي يعني أنّ الله منَزّه عن الظلم. وهذا يستلزم أن كل ما يرد في روايات أهل البيت سلام الله عليهم لا بد أن ينسجم مع منطق العدل الإلهي، وكلّ تفسير يتعارض مع العدل الإلهي أو ينافيه فهو مرفوض سلفاً جملة وتفصيلاً.
ههنا يقول النص إنّ الله ضمّن الأرض أي الأرض كلّها، فليس في العبارة ما يصرف لفظة الأرض عن معناها العام إلى بقعة بعينها، مع العلم أنّ كلمة «كربلاء» وهي الأرض التي أُريق عليها دم الحسين سلام الله عليه موجودة في الروايات والزيارات الأخرى كثيراً، وكذلك كلمة «الكوفة» وهي الأرض التي خرجت منها الجيوش لقتل الحسين سلام الله عليه. ولكن عندما نراجع هذه الزيارة نرى كلمة «الأرض» وردت بإطلاقها، بل يقول النص: وضمّن الأرض ومَن عليها. أي الأرض وكلّ من عليها وهم كلّ البشر الذين سكنوا الأرض من أوّل الدنيا إلى آخرها.
يقول العلاّمة المجلسي رضوان الله عليه: لعلّ المقصود بـ (مَن عليها): الملائكة والجنّ(6).
ولكن قد يقال: ولماذا الملائكة والجنّ فقط؟ بل البشر وكلّ شيء أوعز إليه التسبيح لله تعالى أيضاً، لأنّ (مَن) ههنا موصولة وهي ظاهرة في العموم كما هو المشهور بين علماء اللغة والأصول. فتكون معنى العبارة: أنّ الله تعالى ألقى مسؤولية دم الحسين سلام الله عليه على الكرة الأرضية وكلّ مَن عليها. وحقَّ للعلماء أن يحاروا في توجيه هذه العبارة التي وردت عن الإمام الصادق سلام الله عليه وهو لا يقول ـ حاشاه ـ كلمات غير مفهومة؛ لأنه من أهل البيت سلام الله عليهم الذين هم القمّة في البلاغة ناهيك عن عصمتهم ودقّتهم في كلّ الأمور؛ فلماذا يقول الإمام سلام الله عليه أن الله تعالى جعل دم الحسين في ذمّة الأرض؟ ما شأنها؟ هل هي قتلت الحسين سلام الله عليه؟ وإذا كان المقصود بكلمة الأرض هنا كربلاء فنحن نعلم أن الله تبارك وتعالى رفع شأنها بالإمام الحسين سلام الله عليه حتى جعلها أشرف من الكعبة ـ وهذه من جملة العطاءات الاستثنائية التي خصّ بها الإمام الحسين سلام الله عليه ـ ولكن الإمام سلام الله عليه لم يخصص أرض كربلاء بل قال: ضمّن الأرض. أي كلّ الأرض، فإذا كان الإمام الحسين سلام الله عليه قد قُتل على بقعة من الأرض فلماذا حمّل الله الأرض كلها مسؤولية ذلك الدم الطاهر؟
أجل، حار العلماء في فهم كلام الإمام الصادق سلام الله عليه في هذه الزيارة، فقال جماعة: بما أنّه قُتل الإمام الحسين سلام الله عليه على الكرة الأرضية فإنّ الله تعالى جعلها كلها مسؤولة عن تعذيب قتلة الحسين سلام الله عليه وخاذليه حيثما دُفنوا وفي أيّ بقعة منها! وهذا هو ضمان الله على الأرض، وهو مائز ميّز الله تعالى به الحسين سلام الله عليه وخصيصة خصّه بها، وكشف عنها الإمام الصادق سلام الله عليه. أما كيف تنفّذ الأرض هذا التكليف الإلهي فهذا ليس من شأننا معرفته، وهي تعرف تكليفها ونحن يكفي أن نعرف في المقام أنها مكلّفة وأنها تؤدّي تكليفها؛ (قالتا أتينا طائعين)
النقطة الأخرى الجديرة بالتأمّل في كلمات الإمام الصادق سلام الله عليه في هذه الزيارة قوله: «ومن عليها». وهذا يكشف أننا نحن أيضاً وآباؤنا وأبناؤنا وأجيالنا اللاحقة ممن سيعيش على هذه الأرض، جميعاً مسؤولون عن دم الحسين سلام الله عليه والثار له، فأنا وأنت بذمّتنا دمه وكذا من يعيش اليوم وغداً في أقصى نقاط العالم. والسؤال: نحن لم نكن موجودين في زمن بني أمية ولا شهدنا مقتل الحسين سلام الله عليه فكيف نكون مسؤولين وعمّ؟ بل الإمام الصادق سلام الله عليه نفسه لم يكن موجوداً في زمن جدّه ولا رأى مقتله، ولو شهد لنصره فكيف يقول إذن: ضمّن الأرض ومن عليها دمك وثارك؟
إذن لابدّ أن يكون لذلك معانٍ أخرى فلنحاول الوقوف عليها.
عبرات الامام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في زيارة الإمام الحسين سلام الله عليه المعروفة بزيارة الناحية ـ
فقرات من زيارة الناحية المقدّسة
من كلام لبقية الله الأعظم الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف في زيارة الإمام الحسين سلام الله عليه المعروفة بزيارة الناحية ـ والمؤمَّل أن بعضكم قرأها اليوم أو في بقية أيام السنة ـ يخاطب الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف فيها جدّه سيد الشهداء سلام الله عليه بعد شهادته قائلاً: «فلما رأين النساء جوادك مخزياً» أي عليه علامات الانكسار، مطأطئاً رأسه حزيناً لعدم تمكنه من مساعدة أبي عبد الله سلام الله عليه، فإن الإمام الحجة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف يصف جواد الإمام الحسين حين وصوله إلى المخيم بلا فارس، وكأنه يحسّ بالتقصير بسبب عجزه عن إغاثة مولاه الإمام الحسين سلام الله عليه، ومع ذلك فقد أسرع إلى عياله ليخبرهم بالفاجعة العظيمة.
يقول الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف: «فلما رأين النساء جوادك مخزياً ونظرن سرجك عليه ملويّاً» والسرج ما يوضع على الفرس لجلوس الراكب، ويوثق بالجواد بكلّ استحكام لئلا يقع الراكب من الفرس حين عَدْوه، وإذا ما وقع الفارس من جواده دون اختياره يلتوي السرج إلى الأسفل. وهذا ما يشير إليه مولانا صاحب العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف، أي: لمّا سمع أهل البيت سلام الله عليهم صهيل جواد الإمام الحسين سلام الله عليه خرجن من الخدور فنظرن إلى الجواد وإذا بسرجه ملوي فعرفن من حالة الجواد ما جرى على أبي عبد الله سلام الله عليه. ويصف الإمام الحجة سلام الله عليه حالة النساء فيقول: «فبرزن من الخدور ناشرات الشعور». أما الخدور جمع خدر، والخدر ـ في اللغة العربية ـ ما يُتوارى به، ومنه اُطلق على الستر الذي يُمدّ للجارية في ناحية البيت. والخادر: كل شيء منع بصراً فقد أخدره، ولذلك يُطلق على الظلمة خِدراً، فالخدر هو الستر الذي لا يكشف؛ فيكون معنى هذه العبارة: أن بنات الرسالة قد خرجن من خبائهن الشديد الستر!
نشر الشعور في المصاب الجلل
أما قوله عجل الله تعالى فرجه الشريف: «ناشرات الشعور» فيمكن تصويره كالتالي:كان من المتعارف عند العرب سابقاً أن المرأة إذا فقدت عزيزاً عليها تبقى بقية عمرها محزونة لمصابه، محرومة حتى من البسمة والضحكة لفقده، فإنها في ظروف كهذه تفتح ضفيرتها داخل الستر والحجاب كعلامة لشدة المصيبة ـ وهذه العادة موجودة في العراق أيضاً وربما في مناطق عربية أخرى ـ وليس المراد من العبارة كما يتصور البعض أن العلويات خرجن من الستر ورؤوسهن مكشوفة والعياذ بالله. إذن: معنى «ناشرات الشعور» هو: إن العلويات فتحن ظفائرهن تحت المقانع لشدة المصاب، بعد أن ربطن المقانع على رؤوسهن بإحكام امتثالاً لأمر سيد الشهداء سلام الله عليه، فقد أوصاهن بذلك لكي لا يذهلن عن حجابهن من شدة المصيبة وعظمة الفاجعة ثم يقول الإمام بعد ذلك مصوّراً حالة العلويات: «على الخدود لاطمات وبالعويل داعيات».
حقّاً: إن كلّ كلمة في هذه الزيارة تعبّر عن مصيبة عظيمة، فتارة يدعو الإنسان شخصاً، وأخرى يناديه برفيع صوته، وكلاهما لا يقال له عويل، إنما يكون العويل حينما يبكي الإنسان ويصيح برفيع صوته، وهذا معناه أن العلويات خرجن من المخيَّم إلى مصرع سيد الشهداء ـ والمسافة ليست بعيدة ـ وهنّ مهرولات باكيات يصرخن بأصواتهن مناديات: وامحمداه، واعلياه، وافاطمتاه، واحسيناه، واجعفراه، واحمزتاه... ولسان حالهن: يارسول الله إحضَر اليوم في كربلاء، وانظر ما جرى علينا، وأنت يا أبتاه يا أمير المؤمنين احضر وانظر حالنا. ثم إنه سلام الله عليه قال: «وإلى مصرعك مبادرات» فقد تسابقت العلويات صغارهن وكبارهن إلى مصرع سيد الشهداء سلام الله عليه ولا أعلم لماذا أسرعن؟ فربما أسرعن ليدركن لحظة من حياة أبي عبد الله الحسين سلام الله عليه أو أسرعن لشدة اللوعة أو لغير ذلك.
الأحداث المأساوية
في مثل هذا اليوم ـالعاشر من المحرّم ـ عصراً أرسل عمر بن سعد الرؤوس الشريفة نحو الكوفة، وبات هو وجماعته وكذلك بات أهل البيت في كربلاء، وفي ظهر اليوم الثاني سيقت العلويات من كربلاء إلى الكوفة، والمسافة ـ كما ينقل المؤرخون ـ ثلاثة منازل أي ما يعادل ثلاثة أيام، إلا إذا حثّ الإنسان في سيره فيمكنه أن يبلغها أسرع.
لقد أمر ابن سعد ـ كما روى المؤرخون، ومنهم صاحب البحار ـ أن تتحرك قافلة الأسارى عصر يوم الحادي عشر نحو الكوفة فوصلت إليها صباح اليوم الثاني عشر؛ مما يدلّ على شدة السرعة التي سيقت بها.
وقد أشار بقية الله الأعظم عجّل الله تعالى فرجه الشريف إلى حال سبي العلويات مخاطباً جده سيد الشهداء سلام الله عليه قائلاً: «وسُبي أهلك كالعبيد» فقد قادهن القوم كما كان المشركون يقودون عبيدهم لا كما كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وأمير المؤمنين سلام الله عليه والإمام الحسين سلام الله عليه يعاملون الأسرى بعزّة وإجلال، وكرامة واحترام.
لقد خرج المشركون لمقاتلة رسول الله صلّى الله عليه وآله وقصدوا بذلك قتله، وعندما اُسر بعضهم في إحدى المعارك لم يستطع النبي صلّى الله عليه وآله أن ينام طيلة تلك الليلة بسبب أنين واحد منهم، أما بنو أمية فقد أسروا ذرّيته ولم يرقّوا لحالهم أبداً.
بنات الوحي في الأسر
ثم قال عجّل الله تعالى فرجه الشريف في الزيارة: «وسبي أهلك كالعبيد وصفّدوا في الحديد» والصفد هو أن تغلّ يدا الإنسان إلى عنقه أو إلى الخلف بالأغلال وتجعل القيود حول جسده ثم تقفل، هكذا ساقوا أهل البيت سلام الله عليهم من كربلاء إلى الكوفة في ليلة واحدة، فقد قيّد أتباع يزيد العلويات بالأغلال بما فيهم العلويات الصغار والأطفال، وكان من ضمنهم الإمام الباقر سلام الله عليه وطفلان للإمام المجتبى سلام الله عليه، فضلاً عن الإمام السجاد سلام الله عليه.
أمّا الحالة التي سيقت بها قافلة الأسارى فقد أشار إليها الإمام الحجّة سلام الله عليه فقال: «فوق أقتاب المطيات» فإن الذي يركب الفرس أو الحمار أو غيرها من الدوابّ لا يحتاج إلى محمل أو غيره لأن ظهور هذه الحيوانات مستوية فلو وضع على ظهرها قماش وما أشبه يكون أفضل، أما بالنسبة للجمل والنياق فالأمر يختلف؛ لأن أظهرها غير مستوية، ولذلك يضعون عليها القتب ويربطونها جيداً لئلا يقع الراكب ثم يضعون على الأقتاب الهودج أو القبّة، على اختلاف أشكالها الدائرية وغيرها.
يُنقل أن ابن سعد اتخذ لنفسه وأصحابه هوادج أمّا نياق وجمال أهل البيت سلام الله عليهم فكانت مجردة وكان الأطفال والعلويات يُسيَّرون على النياق الحاسرة، وهذا هو مراد الإمام الحجة عجّل الله تعالى فرجه الشريف في زيارة جده سيد الشهداء سلام الله عليه حين قال: «على أقتاب المطيات».
ولو لاحظتم «بحار الأنوار» للعلامة المجلسي تجدونه يعبّر عن حال أهل البيت بما فيهم النساء والأطفال قائلاً: وأفخاذهم تشخب دماً. فمن الطبيعي أن الجمال حينما تجدّ في السير والعلويات مع الأطفال على هذه الحالة على أخشاب مجرّدة بدون فرش مقيّدين، تشخب أفخاذهم دماً؛ والحال أن الظالم يريد إيصالهم إلى الكوفة بأسرع وقت.
الأسر مع السلاسل والأغلال
ثم إن بقية الله الأعظم يخاطب جده سلام الله عليه قائلاً:«وأيديهم مغلولة إلى الأعناق».
ولو لاحظتم كتاب «البحار» أيضاً تجدون أن عمر الإمام السجاد صلوات الله عليه كان آنذاك فوق العشرين سنة أي إنه كان شابّاً ولم يكن حَدثاً لأن عمر الإمام الباقر سلام الله عليه حينذاك كان خمس سنين، وهذا معناه أن عمر الإمام السجاد سلام الله عليه كان فوق العشرين. وكما تعلمون إن رجال بني هاشم كانوا عظيمي الهياكل أقوياء، إلا أن العلامة المجلسي ينقل أن ابن زياد أمر أحد الشرطة ـ وآهٍ من شرطة الظلمةـ أن يذهب ويرى الإمام السجاد سلام الله عليه فإن كان بالغاً قطع رأسه؛ ممّا يدلّ على أنه سلام الله عليه قد نحل بدنه وذاب جسمه إلى هذه الدرجة؛ كلّ ذلك لعظم المصائب التي رآها في كربلاء والطريق والكوفة.
وفي التاريخ أن أوداج الإمام السجاد سلام الله عليه كانت تشخب دماً من أثر الأغلال والقيود التي قيّدوه بها طيلة المسير. فمن عصر اليوم الحادي عشر إلى صباح اليوم الثاني عشر كان الأعداء يسيرون بأهل البيت سلام الله عليهم مقيَّدين والدماء تنزف منهم.
حزن الإمام على جدّه سلام الله عليهما
ثم إن إمام العصر سلام الله عليه خاطب جده سيد الشهداء سلام الله عليه قائلاً: «لأندبنك صباحاً ومساءً» فالندبة هي البكاء مع العويل والصراخ.
فأين تكون هذه الندبة من الإمام الحجة سلام الله عليه لجدّه المظلوم؟ أفي الصحراء أم غيرها؟ وماذا يتذكر الإمام الحجة سلام الله عليه؟ وأي مصيبة من مصائب جدّه يستحضر بحيث إنه لا يفتر ولا يبرد لا شتاءً ولا صيفاً؟! إن الإنسان المفجوع قد يهدأ ويبرد تدريجياً، أمّا الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف فلا يهدأ أبداً بل يندب جدّه ليل، نهار.
ثم إنه سلام الله عليه قال: «ولأبكين عليك بدل الدموع دماً» فإنه ربما يقال: الدمع ـ الذي هو بخار الدم في عروق المقلة ـ إذا تدفّق بكثرة، قلل من قابلية تبخّر رطوبات الدم، فيجري الدم نفسه من عروق الأجفان، أو أن الشرايين الدقيقة في الأجفان تتمزّق فيهمي منها الدم.
ويقال: إن مستودع الدم الذي هو مصدر الدمع ومنبعه، يشبه الكيس الموجود خلف العينين، فإذا جرح يتحوّل الدم الذي فيه إلى دموع، فلو بكى الإنسان كثيراً وبشدّة تحول بكاؤه على أثر جفاف الدمع إلى دم.
الجدير بالذكر أن الإنسان تارة يفقد عزيزاً له فيبكي عليه يوماً أو يومين أو أسبوعاً بشدة فتخرج من عينيه قطرة من الدم؛ فإن منبع الدمع عندما يفقد قدرته على بثّ الدموع يتحول البكاء بالدمع إلى دم وتنزل من الإنسان قطرة أو قطرتان من الدم. إلا أن إمام العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف يخاطب جده ولسان حاله: سأبكي عليك يا جدّاه بكاءً شديداً متواصلاً حتى تجفّ دموعي وتتحوّل دماً. وهذا معناه أن الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف يبكي على الإمام الحسين سلام الله عليه دماً كلَّ يوم وليس فقط يوم عاشوراء؛ إذ إن مصيبة سيد الشهداء وأهل بيته مصيبة استثنائية وشاءت إرادة السماء أن لا يكون لها نظير في الكون منذ الأزل وإلى يوم يبعثون.
المصدر :
(1) وهذا ـ كما لا يخفى ـ لا يعني أنهم صلوات الله عليهم دونه في البذل في سبيل الله تعالى، كيف وهم نور واحد، وهم أفضل منه، كما صرّح الحسين سلام الله عليه نفسه في كربلاء حين قال: جدّي خير مني وأبي خير منّي وأمّي خير منّي وأخي خير منّي، ولكن التضحية التي قيّضت للحسين سلام الله عليه كانت أعظم وكانت استثنائية فخصّه الله تعالى بعطاء فريد واستثنائي، ولو قيّض لأيّ منهم ما قيّض له من التضحية لما اختلف الحال قيد شعرة.
كما لا يخفى أنّ ما لاقاه رسول الله صلى الله عليه وآله والإمام أمير المؤمنين والصديقة الزهراء والسبط المجتبى سلام الله عليهم جميعاً لم يكن بالأمر الهيّن، فلشدّ ما عانى النبي صلى الله عليه وآله حتى قال: ما أوذي نبي مثل ما أوذيت (مناقب آل أبي طالب للمازندراني: 3/ 42) ومن يراجع خطبة أمير المؤمنين سلام الله عليه المعروفة بـ «الشقشقية» وخطبة فاطمة الزهراء سلام الله عليها في الأنصار والمهاجرين بعد غصبها حقّها في فدك وخطبة الإمام الحسن سلام الله عليه في الناس بعد خذلان عسكره له، يدرك مدى الأذى والضيم الذي لحقهم واغتصاب حقوقهم إلى غير ذلك من المآسي والآلام؛ ولكن ـ كما قال الإمام الحسن سلام الله عليه ـ : لا يوم كيومك يا أبا عبد الله. (أمالي الصدوق: 177)
(2) فضلاً عما روي في هذا الشأن من الأخبار، فقد روي عن ابن عباس أنّه قال: أوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلّم: إنّي قتلت بيحيى بن زكريا سبعين الفاً، وإنّي قاتل بابن بنتك سبعين ألفاً، وسبعين ألفاً (بحار الأنوار: 45/ 298؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم: 2/ 290، 592 و 3/ 178، لسان الميزان لابن حجر: 4/ 457 رقم 1411، تهذيب التهذيب له: 2/ 5305، تفسير القرطبي: 10/ 219، تفسير الدر المنثور للسيوطي: 4/ 264 ـ مورد الآية: 5 من سورة الإسراء). إلى غير ذلك من الامتيازات التي تفرّد بها الإمام الحسين سلام الله عليه.
(3) وابن قولويه هذا (ت: 368 هـ) هو أستاذ الشيخ المفيد رضوان الله عليهما، فالشيخ المفيد يروي عن الكليني بواسطته، والشيخ القمّي رحمه الله مدفون في الكاظمية في الرواق الشريف وفي محاذاة تلميذه الشيخ المفيد.
(4) اعتبره جماعة من فقهاء الشيعة ومحدّثيهم من أصحّ كتب الطائفة.
(5) كامل الزيارات لابن قولويه: 385 ح17 الباب 79 زيارات الإمام الحسين بن علي عليهما السلام.
(6) راجع بحار الأنوار: 98 / 170.
/10/sdsdsdsdsd55%20(26).jpg
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى