منتديات الوادي الاخضر
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الليلة التاسعة علي (عليه السلام) والفضائل النفسية

اذهب الى الأسفل

الليلة التاسعة علي (عليه السلام) والفضائل النفسية Empty الليلة التاسعة علي (عليه السلام) والفضائل النفسية

مُساهمة  مهند المسيباوي الثلاثاء 9 فبراير 2010 - 15:03

الحمد لله على نعمائه وصلى الله على سيدنا محمد سيد أنبيائه وآله سادات أوليائه.

قال الله تعالى في القرآن العظيم: (قل كلٌّ يعمل على شاكلته)(1).

قال علماء النفس والفلاسفة: إن أعمال الإنسان وأفعاله التي تظهر إلى الوجود إنما هي آثار نفسيته التي تطبع عليها، وانطباعاته التي خامرت روحه عن الوراثة والتربية، فالفضائل بكافة أنواعها وأقسامها، والرذائل بجميع أشكالها وأجناسها ما هي إلا ولائد التربية أو رواسب الوراثة.

وقد ذكرنا في بعض الليالي الماضية بعض جوانب التربية ونتائجها، ولو أردنا الخوض في هذا البحث فاتنا الكلام الأصلي المقصود بيانه في هذه الليلة.

حديثنا ـ الليلة ـ حول الفضائل النفسية التي امتاز بها الإمام (عليه السلام) وإنما وصفنا الفضائل بالنفسية لأن هناك فضائل لا ترتبط بالنفس كالنسب الشريف والجمال والقوة فإنها أمور لا اختيارية، والفضائل النفسية تظهر إلى الوجود بالطوع والاختيار كالجود والعفو والزهد والعبادة وما شاكل ذلك فإنها منبعثة من نفس طاهرة شريفة فاضلة وإلى هذا أشار القرآن الكريم بقوله تعالى: (قل كلٌّ يعمل على شاكلته)(2) أي قل يا محمد كل واحد من المؤمن والكافر يعمل على طبيعته وخليقته التي تخلق بها أو على طريقته وسنته التي اعتادها، وقال الشاعر:

ملكنا فكان العفو منا سجية فلما ملكتم سال بالدم أبطح

فحسبكم هــذا التفاوت بيننا فكل إناء بالذي فيه ينضح

وقد مر عليكم الشيء الكثير ـ القليل مما يتعلق بهذا الإمام العظيم من عوامل التشريف والتأثير في نفسيته الطاهرة (عليه السلام) من حيث الميلاد والمواهب والمزايا والخصائص والتربية، فأنتجت تلك العوامل الإلهية والنبوية أحسن إنتاج، وجعلت نفس علي مركزاً لانطلاق كل فضيلة وخير فلا عجب إذا كان الإمام (عليه السلام) صوتاً للعدالة الإسلامية ورمزاً للفتوة والمروة ومثالاً للعطف والحنان الأبوي.

وأصحاب النفوس الشريفة تختلف هواياتهم عن غيرهم، فهم دائماً وأبداً يلبون نداء ضميرهم الإنساني، ويستلذون بإسعاف الفقير والمسكين.

ويبتهجون بإشباع البطون الجائعة وإكساء الأجساد العارية وإنقاذ البؤساء من براثن الفاقة، وحيث أنهم أشربوا معرفة الله تعالى وخالط حب الله لحومهم ودماءهم فإن أسعد أوقاتهم وألذها عندهم هي الساعات التي يشتغلون فيها بمناجاة ربهم والخضوع والخشوع أمام عظمة الله تعالى، فلا يملون من العبادة كما لا يمل الحبيب من مكالمة حبيبه.

وجملة أخرى لا بأس بالإشارة إليها وهي: أن الإنسان حينما يحس بالنقص في نفسه من حيث العلم أو الفن أو الفضيلة أو القوة أو الجمال أو ما شابه ذلك فإنه يحاول إخفاء ذلك النقص وجبران ذلك العيب عن طريق التزيين والتجميل في الملبس والمسكن وسائر لوازم الحياة ومظاهر الترف، كل ذلك إرضاء لوجدانه وضميره الذي يؤنبه بالنقص، أما أولياء الله فإنهم يحسون بالكمال في أنفسهم، فهم في غنى عن ستر النقص عن طريق التجميل والتفنن في الملبس والمأكل والمسكن وما جرى مجرى ذلك لأنه لا نقص فيهم.

وعلى هذا الأساس كانوا يختارون لأنفسهم البساطة في المعيشة، ويتجلى الزهد في جميع مظاهر حياتهم بدون أي تكلف وتعسف، فلا يشتاقون إلى اختلاف الأطعمة ولا تميل نفوسهم إلى زخارف الحياة وزبرجدها، فإن الإحساس بالكمال يحول بينهم وبين الشعور بالحاجة إلى ما تتهافت عليه نفوس الآخرين من حطام الدنيا.

فإذا قرأنا أو سمعنا عن نبي أو إمام شيئاً من الزهد وعدم الإقبال على مباهج الحياة فلعله معلول هذه العلة التي تقدمت.

وسنذكر ما تيسر من الأخبار والأحاديث التي اشتهرت بين أعلام الحديث وحفاظه حول الفضائل النفسية التي أنعم الله بها على أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

قال ابن أبي الحديد في مقدمته على شرح نهج البلاغة:

وما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل؟ ولم يمكنهم جحد مناقبه ولا كتمان فضائله؟ فقد علمت أنه استولى بني أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره، والتحريف عليه، ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر وتوعدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم ومنعوا من راوية حديث يتضمن له فضيلة أو يرفع له ذكراً، حتى حضروا (منعوا) أن يسمى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلا رفعة وسمواً، وكان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه وكلما كتم تضوع نشره، وكالشمس لا تستر بالراح، وكضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة.

وما أقول في رجل تعزى (تنسب) إليه كل فضيلة؟ وتنتمي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها وأبو عذرها وسابق مضمارها، ومجلي حلبتها.

وكل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى...

وإن رجعت إلى الخصائص الخلقية والفضائل النفسية والدينية وجدته ابن جلاها، وطلاع ثناياها.

علي (عليه السلام) واليقين

في البحار ـ ج9 ـ قال الإمام الصادق (عليه السلام): كان لعلي غلام اسمه قنبر وكان يحب علياً (عليه السلام) حباً شديداً فإذا خرج علي خرج على أثره بالسيف فرآه ذات ليلة فقال يا قنبر: ما لك؟ قال: جئت لأمشي خلفك فإن الناس كما تراهم يا أمير المؤمنين فخفت عليك.

فقال ويحك! أمن أهل السماء تحرسني أم من أهل الأرض؟ قال: بل من أهل الأرض.

قال: إن أهل الأرض لا يستطيعون بي شيئاً إلا أن يأذن الله عز وجل من السماء، فارجع فرجع.

وقيل له (عليه السلام) يوم صفين احترس يا أمير المؤمنين فإنا نخشى أن يقتلك هذا اللعين.

فقال (عليه السلام): كفى بالأجل حارساً، ليس أحد من الناس إلا ومعه ملائكة حفظة يحفظونه من أن يتردى في بئر، أو يقع عليه حائط أو يصيبه سوء، فإذا حان أجله خلوا بينه وبين ما يصيبه، فكذلك أنا إذا حان أجلي انبعث أشقاها فخضب هذه بهذه ـ وأشار إلى لحيته وهامته ـ عهداً معهوداً ووعداً غير مكذوب.

علي (عليه السلام) والحفظ

في البحار ـ ج9 ـ عن سليم بن قيس قال: سمعت علياً (عليه السلام) يقول ما نزلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها علي فكتبنها بخطي، وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها، ودعا الله عز وجل أن يعلمني فهمها وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله عز وجل ولا علماً أملاه علي فكتبته، وما ترك شيئاً علمه الله عز وجل من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي وما كان وما يكون من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته، ولم أنس منه حرفاً واحداً، ثم وضع يده على صدري ودعا الله تبارك وتعالى بأن يملأ قلبي علماً وفهماً وحكمة ونوراً، ولم أنس من ذلك شيئاً، ولم يفتني من ذلك شيء لم أكتبه جهلاً وقد أخبرني أن ربي عز وجل قد استجاب لي فيك...

إلى آخره.

علي (عليه السلام) والتعطف

(في البحار ج ـ 9) عن الإمام الباقر (عليه السلام): رجع علي (عليه السلام) إلى داره في وقت القيظ، فإذا امرأة قاتمة تقول: إن زوجي ظلمني وأخافني وتعدى علي وحلف ليضربني.

فقال: يا أمة الله حتى يبرد النهار ثم أذهب معك إنشاء الله.

فقالت: يشتد غضبه وحرده علي.

فطأطأ رأسه ثم رفعه وهو يقول: لا والله أو يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع، أين منزلك؟ فمضى إلى بابه فوقف فقال: السلام عليكم.

فخرج شاب، فقال علي: يا عبد الله اتق الله فإنك قد أخفتها وأخرجتها، فقال الفتى: وما أنت وذاك والله لأحرقنها لكلامك.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر وتستقبلني بالمنكر وتنكر المعروف، قال: فأقبل الناس من الطرق يقولون: سلام عليكم يا أمير المؤمنين فسقط الرجل في يديه وقال: يا أمير المؤمنين: أقلني عثرتي، فوالله لأكونن لها أرضاً تطأني.

فأغمد سيفه فقال: يا أمة الله ادخلي منزلك ولا تلجئي زوجك إلى مثل هذا وشبهه.

قال أبو الطفيل: رأيت علياً (عليه السلام) يدعو اليتامى فيطعمهم العسل حتى قال بعض أصحابه: لوددت أني كنت يتيماً.

علي (عليه السلام) والحق

قال الله الحكيم في كتابه الكريم: (وقل جاء الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)(3) وقال تعالى: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع)(4).

سئل أبو ذر عن اختلاف الناس فقال: عليك بكتاب الله والشيخ علي بن أبي طالب (عليه السلام) فإني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: (علي مع الحق والحق معه وعلى لسانه، يدور حيث ما دار علي).

وسلم محمد بن أبي بكر يوم الجمل على عائشة فلم تكلمه فقال: أسألك بالله الذي لا إله إلا هو ألا سمعتك تقولين: ألزم علي بن أبي طالب فإني سمعت رسول الله يقول: (الحق مع علي وعلي مع الحق لا يفترقان حتى يردا علي الحوض)؟ قالت: بلى قد سمعت ذلك منه.

عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: ويل لمن جهل معرفتي ولم يعرف حقي، ألا إن حقي هو حق الله، ألا إن حق الله هو حقي.

علي (عليه السلام) والغنى

(في الكافي) عن عبد الأعلى قال: قلت لأبي عبد الله (الصادق) (عليه السلام)، إن الناس يرون أن لك مالاً كثيراً.

فقال: ما يسوءني ذاك إن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) مر ذات يوم على ناس شتى من قريش وعليه قميص مخرق، فقالوا: أصبح علي لا مال له، فسمعها أمير المؤمنين، فأمر الذي يلي صدقته أن يجمع ثمره ولا يبعث إلى إنسان شيئاً، وأن يوفره، ثم قال: بعه الأول فالأول، واجعلها دراهم ثم اجعلها حيث تجعل التمر فاكبسه معه حيث ترى، وقال للذي يقوم عليه: إذا دعوت بالتمر فاصعد وانظر المال فاضربه برجلك كأنك لا تعمد الدراهم حتى تنثرها.

ثم بعث إلى رجل منهم يدعوه، ثم دعى بالتمر فلما صعد ينزل التمر ضرب برجله فانتثرت الدراهم، فقالوا: ما هذا يا أبا الحسن؟ فقال: هذا مال من لا مال له، ثم أمر بذلك المال فقال انظروا أهل كل بيت كنت أبعث إليهم فانظروا ماله وابعثوا إليه.

وذكر ابن أبي الحديد: أن غلة أرضه في ينبع كانت في السنة أربعين ألف دينار فكان يتصدق بها في سبيل الله.

علي (عليه السلام) والعفو

بعث أمير المؤمنين إلى لبيد بن عطارد التميمي في كلام بلغه، فمر به إلى أمير المؤمنين في بني أسد، فقام إليه نعيم بن دجاجة الأسدي فأفلته، فبعث أمير المؤمنين (عليه السلام) فأتوه به وأمر به أن يضرب فقال له نعيم: إن المقام معك لذل، وإن فراقك لكفر فلما سمع ذلك منه قال: قد عفونا عنك إن الله عز وجل يقول: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة)(5) أما قولك: إن المقام معك لذل فسيئة اكتسبتها، وأما قولك: إن فراقك لكفر فحسنة اكتسبتها، فهذه بذه.

علي (عليه السلام) والحكمة

قال الله تعالى: (من يؤتى الحكمة فقد أُوتي خيراً كثيراً)(6).

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (أنا مدينة الحكمة وعلي بابها).

قد ذكر المفسرون للحكمة معاني متعددة وقد فاز الإمام بالحكمة بجميع معانيها وبكافة نواحيها فقد ذكر الطبرسي في تفسير الآية وجوهاً.

1 ـ علم القرآن: ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره حلاله وحرامه.

2 ـ الإصابة في القول والعقل.

3 ـ علم الدين.

4 ـ العلم الذي تعظم منفعته وتجل فائدته.

5 ـ القرآن والفقه.

6 ـ ما أتى الله أنبياءه وأممهم في كتابه وآياته ودلالاته التي يدلهم بها على معرفتهم به وبدينه.

(عن أمالي الطوسي): قال جابر بن عبد الله الأنصاري: رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أخذ بيد علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو يقول: هذا أمير البررة وقاتل الفجرة، منصور من نصره مخذول من خذله.

ثم رفع صوته: أنا مدينة الحكمة وعلي بابها، فمن أراد الحكمة فليأت الباب.

وذكر البغوي في الصحاح: أنا دار الحكمة وعلي بابها.

(في حلية الأولياء): سئل النبي (صلّى الله عليه وآله) عن علي بن أبي طالب فقال: قُسمت الحكمة عشرة أجزاء فأعطي علي (عليه السلام) تسعة أجزاء والناس جزء واحد.

وذكر الغزالي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: أنا ميزان الحكمة وعلي لسانها.

علي (عليه السلام) والزهد

قال عمر بن عبد العزيز: ما علمنا أحداً كان في هذه الأمة أزهد من علي بن أبي طالب بعد النبي (صلّى الله عليه وآله).

قال (عليه السلام): لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها.

وفي البحار عن السيد ابن طاووس عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: تزوجت فاطمة (عليها السلام) وما كان لي فراش، وصدقتي اليوم لو قسمت على بني هاشم لوسعتهم.

وقال فيه أنه (عليه السلام): وقف أمواله وكانت غلتها أربعين ألف دينار وباع سيفه وقال: من يشتري سيفي؟ ولو كان عندي عشاء ما بعته! وقال مرة: من يشتري سيفي الفلاني، ولو كان عندي ثمن إزار ما بعته! قال: قال: وكان يفعل هذا وغلته أربعون ألف دينار من صدقته.

وقال الإمام الباقر (عليه السلام) في زهد علي (عليه السلام) أنه ولي (أيام خلافته) خمس سنين، وما وضع آجرة ولا لبنة على لبنة ولا أقطع قطيعاً ولا أورث بيضاء ولا حمراء.

عن الزمخشري: إن علياً (عليه السلام) اشترى قميصاً، فقطع ما فضل عن أصابعه ثم قال للرجل: حصه (أي خط كفافه).

عن الأصبغ بن نباته قال علي (عليه السلام) لأهل البصرة: دخلت بلادكم بأشمالي هذه ورحلتي وراحلتي ها هي، فإن أنا خرجت من بلادكم بغير ما دخلت فإنني من الخائنين.

وفي رواية: يا أهل البصرة ما تنقمون مني إن هذا لمن غزل أهلي؟ وأشار إلى قميصه.

وترصد غداءه عمرو بن حريث، فأتت فضة بجراب مختوم، فأخرج منه خبزاً متغيراً خشناً، فقال عمرو: يا فضة لو نخلت هذا الدقيق وطيّبْتيه قالت: كنت أفعل فنهاني، وكنت أضع في جرابه طعاماً طيباً فختم جرابه، ثم إن أمير المؤمنين (عليه السلام) فته في قصعة وصب عليه الماء ثم ذر عليه الملح وحسر عن ذراعه، فلما فرغ قال (عليه السلام): يا عمرو لقد حانت هذه ـ ومد يده إلى محاسنه ـ وخسرت هذه أن أدخلها النار من أجل الطعام، وهذا يجزيني.

ورآه عدي بن حاتم وبين يديه شنة فيها قراح ماء وكسرات من خبز شعير وملح، فقال: إني لا أرى لك يا أمير المؤمنين لتظل نهارك طاوياً مجاهداً وبالليل ساهراً مكابداً، ثم يكون هذا فطورك، فقال (عليه السلام):

علل النفس بالقنوع وإلا طلبت منك فوق ما يكفيها

ونظر علي (عليه السلام) إلى فقير انخرق كُمّ ثوبه فخرق علي (عليه السلام) كُمّ قميصه وألقاه إليه.

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): إن علياً أتى البزازين فقال لرجل: بعني ثوبين.

فقال الرجل: يا أمير المؤمنين عندي حاجتك فلما عرفه مضى عنه، فوقف على غلام، فأخذ ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم والآخر بدرهمين فقال: يا قنبر خذ الذي بثلاثة فقال: أنت أولى به، تصعد المنبر، وتخطب الناس فقال: وأنت شاب ولك شره الشباب، وأنا أستحي من ربي أن أتفضل عليك! سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: ألبسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تأكلون.

فلما لبس علي القميص مدّ كُمّ القميص فأمر بقطعه واتخاذه قلانس للفقراء، فقال الغلام: هلم أكفه (أي أخيطه)، قال: دعه كما هو فإن الأمر أسرع من ذلك، فجاء (أبو الغلام) أي (بائع الثوب) وقال: إن ابني لم يعرفك وهذان درهمان ربحهما، فقال: ما كنت لأفعل، قد ماكست وماكسني، واتفقنا على رضى.

روى ابن عبد البر المالكي في الاستيعاب بسنده وغيره أن معاوية قال لضرار بن ضمرة: صف لي علياً، قال: اعفني.

قال: لتصفنه.

قال: أما: إذا كان لا بد من وصفه، فإنه: كان بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس (ويستأنس) بالليل ووحشته وكان غزير الدمعة (العبرة) طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما جشب، (من اللباس ما قصر ومن الطعام ما خشن) وكان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، (وينبئنا إذا استنبأناه) ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه، قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، وهو يقول: يا دنيا غُري غيري، أبي نعرضت؟ أم إلي تشوقت؟ هيهات! قد بنتك (باينتك) ثلاثة، لا رجعة فيها، فعمرك قصير وخطرك كبير (حقير) وعيشك حقير، آه! من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.

فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح ولدها بحجرها فهي لا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها.

وفي المناقب: ثم قام وخرج باكياً فقال معاوية: أما إنكم لو فقدتموني لما كان فيكم من يثني علي هذا الثناء.

فقال بعض من حضر: الصاحب على قدر صاحبه.

قال ابن أبي الحديد: (وأما الزاهد في الدنيا: فهو سيد الزهاد وبدل الأبدال، وإليه تشد الرحال، وعنده تنفض الأحلاس، ما شبع من طعام قط، وكان أخشن الناس مأكلاً وملبساً).

قال عبد الله بن أبي رافع: دخلت إليه يوم عيد، فقدم جراباً مختوماً، فوجدنا فيه خبز شعير يابساً مرضوضاً، فقدم فأكل فقلت: يا أمير المؤمنين فكيف تختمه؟ قال: خفت هذين الولدين (الحسنين) أن يلتاه بسمن أو زيت!! وكان ثوبه مرقوعاً بجلد تارة وليف أخرى، ونعلاه من ليف، وكان يلبس الكرباس الغليظ، فإذا وجد كمه طويلاً قطعه بشفرة ولم يخطه، فكان لا يزال متساقطاً على ذراعيه حتى يبقى سدي لا لحمة له!! وكان يأتدم إذا ائتدم (أي يجعل إداماً) بخل أو بملح، فإن ترقى عن ذلك فببعض نبات الأرض فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الإبل، ولا يأكل اللحم إلا قليلاً ويقول: لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوانات.

علي (عليه السلام) والعفة

في التاسع من البحار نقلاً عن كتاب مناقب ابن شهر آشوب وكتاب الاحتجاج وغيرهما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:....

وسافرت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وليس له خادم غيري، وكان له لحاف ليس له لحاف غيره، ومعه عائشة وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ينام بيني وبين عائشة ليس علينا لحاف غيره، فإذا قام: إلى صلاة الليل يحط بيده اللحاف من وسطه بيني وبين عائشة حتى يمس اللحاف الفراش الذي تحتنا.. الخ.

هذا الحديث كما تراه يدل على شدة ثقة النبي بعلي، وكثرة اختصاصه به واطمئنانه منه، وكثيراً ما تحدث أمثال هذه القضايا في العوائل المحافظة على الحجاب والغيرة نظراً لنزاهة الأفراد وطهارة القلوب فكيف بالمعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

(في البحار) عن عبد الله بن مسعود قال: خرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من بيت زينب بنت جحش حتى أتى بيت أم سلمة، وجاء داق ودق الباب، فقال: يا أم سلمة قومي فافتحي له.

قالت: فقلت: ومن هذا يا رسول الله الذي من خطره أن أفتح له الباب؟ وأتلقاه بمعاصمي؟ وقد نزلت في بالأمس آيات من كتاب الله: (يا نساء النبي...).

فقال: يا أم سلمة إن طاعة الرسول طاعة الله وإن معصية الرسول معصية الله، وإن بالباب لرجلاً ليس بنزق ولا خرق، وما كان ليدخل منزلاً حتى لا يسمع حساً، وهو يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.

فقلت: ففتحت الباب، فأخذ بعضادتي الباب ثم جئت حتى دخلت الخدر، فلما أن لم يسمع وطئ قدمي دخل ثم سلم على رسول الله ثم قال: يا أم سلمة ـ وأنا من وراء الخدر ـ أتعرفين هذا؟ قلت: نعم هذا علي بن أبي طالب قال: هو أخي، سجيته سجيتي ولحمه من لحمي، ودمه من دمي... الخ.

علي (عليه السلام) والتواضع

قال سعد بن معاذ لعلي (عليه السلام)، ـ وكان نازلاً عليه ـ : ما منعك أن تخطب إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ابنته؟ فقال (عليه السلام) أنا أجترئ أن أخطب إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ والله لو كانت أمة ما اجترأت عليه.

فحكى سعد مقالته لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقال له رسول الله: قل له: يفعل.

فإني سأفعل.

قال: فبكى علي حيث قال له سعد، ثم قال (عليه السلام): لقد سعدت إذ أن جمع الله لي صهره مع قرابته.

وشرف أبي طالب ما قد علمه الناس وهو ابن عم رسول الله لأبيه وأمه.

(في البحار): بالإسناد إلى أبي محمد العسكري (عليه السلام) أنه قال: أعرف الناس بحقوق إخوانه وأشدهم قضاء لها أعظمهم عند الله شأناً، ومن تواضع في الدنيا لإخوانه فهو عند الله من الصديقين ومن شيعة علي بن أبي طالب (عليه السلام) حقاً.

ولقد ورد على أمير المؤمنين أخوان له مؤمنان: (أب وابن)، فقام إليهما وأكرمهما وأجلسهما في صدر المجلس، وجلس بين أيديهما: ثم أمر بطعام فأحضر فأكلا منه ثم جاء قنبر بطست وإبريق خشب ومنديل لليبس، وجاء ليصب على يد الرجل فوثب أمير المؤمنين وأخذ الإبريق: ليصب على يد الرجل، فتمرغ الرجل في التراب، وقال: يا أمير المؤمنين الله يراني وأنت تصب على يدي؟ قال: اقعد واغسل، فإن الله عز وجل يراك، وأخوك الذي لا يتميز منك ولا ينفصل عنك يخدمك يريد بذلك في خدمته في الجنة مثل أضعاف عدد أهل الدنيا، وعلى حسب ذلك في مماليكه فيها.

فقعد الرجل فقال له علي: أقسمت بعظيم حقي الذي عرفته ونحلته وتواضعك لله حتى جازاك عنه بأن تدنيني لما شرفك به من خدمتي لك لما غسلت مطمئناً، كما كنت تغسل لو كان الصاب عليك قنبراً.

ففعل الرجل ذلك، فلما فرغ ناول الإبريق محمد بن الحنفية وقال: يا بني لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت على يده ولكن الله عز وجل يأبى أن يسوى بين ابن وأبيه، إذا جمعهما مكان، ولكن قد صب الأب على الأب فليصب الابن على الابن، فصب محمد بن الحنفية على الابن.

ثم قال الإمام الحسن بن علي العسكري: فمن اتبع علياً على ذلك فهو الشيعي حقاً.

عن الإمام الصادق (عليه السلام) كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يحتطب ويستسقي ويكنس، وكانت فاطمة سلام الله عليها تطحن وتعجن وتخبز.

وإن علياً اشترى تمراً بالكوفة فحمله في طرف ردائه فتبادر الناس إلى حمله، وقالوا: يا أمير المؤمنين نحن نحمله، فقال (عليه السلام): رب العيال أحق بحمله.

وكان علي (عليه السلام) يحمل التمر والمالح (الملح) بيده ويقول:

لا ينقص الكامل من كماله ما جر من نفع إلى عياله

وعن زيد بن علي إن علياً كان يمشي في خمسة (مواضع) حافياً، ويعلق نعله بيده اليسرى: يوم الفطر، والنحر، والجمعة، وعند العيادة، وتشييع الجنازة، ويقول: إنها مواضع الله وأحب أن أكون فيها حافياً.

وكان (عليه السلام) يمشي في الأسواق وحده وهو إذ ذاك يرشد الضال ويعين الضعيف ويمر بالبياع والبقال فيفتح عليه القرآن ويقرأ.

علي (عليه السلام) والحلم

(في البحار) مرت امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن أبصار هذه الفحول طوامح، وإن ذلك سبب هناتها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلمس أو فليمس أهله، فإنما هي امرأة كامرأة، فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافراً ما أفقهه!! فوثب القوم ليقتلوه فقال (عليه السلام): رويداً إنما هو سبٌّ بسبٍّ أو عفو عن ذنب.

قال قنبر: دخلت مع أمير المؤمنين على عثمان فأحب الخلوة فأومى إليه (إلي) بالتنحي، فتنحيت غير بعيد، فجعل عثمان يعاتبه وهو مطرق برأسه، وأقبل إليه وقال عثمان: ما لك لا تقول؟ فقال: ليس جوابك إلا ما تكره، وليس لك عندي إلا ما تحب ثم خرج قائلاً:

ولــــو أننـــــي جاوبتـــه لأمضـــه نوافذ قولي واحتضار جوابي

ولكنني أغضي على مضض الحشا ولو شـئت إقداماً لأنشب نابي

في البحار إن أمير المؤمنين (عليه السلام) مر بأصحاب التمر فإذا هو بجارية تبكي فقال: يا جارية ما يبكيك؟ فقالت: بعثني مولاي بدرهم فابتعت من هذا تمراً فأتيتهم به فلم يرضوه، فلما أتيته به أبى أن يقبله.

قال (عليه السلام): يا عبد الله: إنها خادم وليس لها أمر، فاردد إليها درهمها وخذ التمر.

فقام إليه الرجل فلكزه فقال الناس: هذا أمير المؤمنين.

فربا الرجل واصفر وأخذ التمر ورد إليها درهمها ثم قال: يا أمير المؤمنين ارض عني.

فقال: ما أرضاني عنك إن أصلحت أمرك، وفي رواية: (إذا وفيت الناس حقوقهم).

ودعى (عليه السلام) غلاماً له مراراً فلم يجبه، فخرج فوجده على باب البيت فقال: ما حملك على ترك إجابتي؟ قال: كسلت عن إجابتك وأمنت عقوبتك، فقال: الحمد لله الذي جعلني ممن يأمنه خلقه، امض، فأنت حر لوجه الله.

وكان (عليه السلام) في صلاة الصبح فقرأ ابن الكواء: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين)(7) فأنصت علي (عليه السلام) تعظيماً للقرآن حتى فرغ من الآية ثم عاد في قراءته ثم أعاد ابن الكواء الآية فأنصت أيضاً.

ثم قرأ فأعاد ابن الكواء فأنصت علي، ثم قرأ: (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون)(Cool ثم أتم السورة وركع.

(في البحار) عن الأصبغ بن نباتة قال: أمرنا أمير المؤمنين (عليه السلام) بالمسير إلى المدائن من الكوفة فسرنا يوم الأحد وتخلف عمرو بن حريث في سبعة نفر فخرجوا إلى مكان بالحيرة يسمى (الخورنق) فقالوا: نتنزه فإذا كان يوم الأربعاء خرجنا فلحقنا علياً قبل أن يجتمع (أن يصلي الجمعة) فبينما هم يتغدون إذ خرج عليهم ضب، فصادوه، فأخذه عمرو بن حريث فنصب كفه وقال: بايعوا، هذا أمير المؤمنين!! فبايعه السبعة وعمرو ثامنهم، فارتحلوا ليلة الأربعاء فقدموا المدائن يوم الجمعة وأمير المؤمنين يخطب، ولم يفارق بعضهم بعضاً، فكانوا جميعاً حتى نزلوا على باب المسجد فلما دخلوا نظر إليهم أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: أيها الناس إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أسر إلي ألف حديث لكل حديث ألف باب لكل باب ألف مفتاح، وإني سمعت الله جل جلاله يقول: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم)(9) وإني أقسم لكم بالله ليبعثن يوم القيامة ثمانية نفر يدعون بإمامهم وهو ضب، ولو شئت أن أسميهم لفعلت! قال: فلقد رأيت عمرو بن حريث قد سقط كما سقط السعف حياء ولوماً وجبناً.

قال ابن أبي الحديد في شرحه: (وأما الحلم والصفح: فكان أحلم الناس عن مذنب، وأصفحهم عن مسيء وقد ظهرت صحة ما قلنا يوم الجمل حيث ظفر بمروان بن الحكم، وكان أعدى الناس له وأشدهم بغضاً، فصفح عنه.

وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رؤوس الأشهاد...

وكان علي يقول: ما زال الزبير رجلاً منا أهل البيت حتى شب عبد الله.

فظفر به يوم الجمل فأخذه أسيراً فصفح عنه، وقال: اذهب فلا أرينك.

لم يزده على ذلك.

وظفر بسعيد بن العاصي بعد وقعة الجمل بمكة، وكان عدواً فأعرض عنه ولم يقل له شيئاً.

وقد علمتم ما كان من عائشة في أمره، فلما ظفر بها أكرمها وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس، عممهن بالعمائم، وقلدهن بالسيوف، فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به، وتأففت، وقالت: هتك ستري ورجاله الذين وكلهم بي!! فلما وصلت إلى المدينة ألقت النساء عمائمهن وقلن لها: إنما نحن نسوة.

وحاربه أهل البصرة، وضربوا وجهه، ووجوه أولاده بالسيوف وسبوه ولعنوه، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم، ونادى مناديه ـ في أقطار العسكر ـ : ألا: لا يتبع مول، ولا يجهز على جريح، ولا يقتل مستأسر ومن ألقى سلاحه فهو آمن ومن تحيز إلى عسكر الإمام فهو آمن، ولم يأخذ أثقالهم، ولا سبى ذراريهم ولا غنم شيئاً من أموالهم، ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل، ولكنه أبى إلا الصفح والعفو.

علي (عليه السلام) والمواساة

عن أمالي المفيد عن أبي هريرة قال: جاء إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) فشكى إليه الجوع، فبعث رسول الله إلى بيوت أزواجه فقلن: ما عندنا إلا الماء، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): من لهذا الرجل الليلة؟ فقال علي بن أبي طالب: أنا له يا رسول الله.

وأتى علي فاطمة (عليها السلام) فقال لها: ما عندك يا بنت رسول الله؟ فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية نؤثر ضيفنا.

فقال علي (عليه السلام): يا بنت محمد: نومي الصبية وأطفئ المصباح فلما أصبح عدا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأخبره الخبر فلم يبرح حتى أنزل الله عز وجل: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)(10).

وفي رواية: فقال علي: يا بنت محمد: نومي الصبية وأطفئ المصباح.

وجعلا يمضغان بألسنتهما فلما فرغ من الأكل أتت فاطمة بسراج فوجدت الجفنة مملوءة من فضل الله، فلما أصبح صلى مع النبي (صلّى الله عليه وآله) فلما سلم النبي من صلاته نظر إلى أمير المؤمنين وبكى بكاء شديداً وقال يا أمير المؤمنين لقد عجب الرب من فعلكم البارحة وقرأ: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة...)(11) الخ.

(عن محمد بن الصمة عن أبيه عن عمه): قال: رأيت في المدينة رجلاً على ظهره قربة، وفي يده صحفة يقول: اللهم ولي المؤمنين إله المؤمنين وجار المؤمنين، اقبل قرباني الليلة، فما أمسيت أملك سوى ما في صحفتي، وغير ما يواريني، فإنك تعلم أني منعته نفسي مع شدة سغبي أطلب القربة إليك غنماً، اللهم فلا تخلق وجهي ولا ترد دعوتي، فأتيته حتى عرفته فإذا هو علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فأتى رجلاً فأطعمه.

علي (عليه السلام) والكرم

(في البحار): جاء أعرابي إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين إني مأخوذ بثلاث علل: علة النفس وعلة الفقر وعلة الجهل.

فأجاب أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال: يا أخا العرب: علة النفس تعرض على الطبيب وعلة الجهل تعرض على العالم وعلة الفقر تعرض على الكريم.

فقال الأعرابي أنت الكريم، وأنت العالم، وأنت الطبيب، فأمر أمير المؤمنين بأن يعطى له من بيت المال ثلاثة آلاف درهم وقال: تنفق ألفاً بعلة النفس، وألفاً بعلة الجهل، وألفاً بعلة الفقر.

وسأله أعرابي شيئاً فأمر له بألف، فقال الوكيل: من ذهب أو فضة؟ فقال (عليه السلام) كلاهما عندي حجران، فأعط الأعرابي أنفعهما له.

وقال له ابن الزبير: إني وجدت في حساب أبي: أن له على أبيك ثمانين ألف درهم، فقال له: إن أباك صادق، فقضى ذلك، ثم جاءه فقال: غلطت فيما قلت، إنما كان لوالدك على والدي ما ذكرته لك فقال: والدك في حل والذي قبضته مني هو لك!! قال الصادق (عليه السلام): إن أمير المؤمنين (عليه السلام) أعتق ألف نسمة من كد يده، جماعة لا يحصون كثرة.

وقال له رجل ـ ورأى عنده وسق نوى ـ : ما هذا يا أبا الحسن؟ قال: مائة ألف نخل إن شاء الله، فغرسه فلم يغادر منه نواة واحدة، فهو من أوقافه ووقف مالاً بخيبر وبوادي القرى، ووقف مال أبي نيرز والبغيبغة وأرباحاً وأرينة ورغد ورزيناً ورياحاً على المؤمنين وأخرج مائة عن بينبع وجعلها للحجيج، وهو باق إلى يومنا هذا وحفر آباراً في طريق مكة والكوفة، وهي مسجد الفتح في المدينة، وعند مقابل قبر حمزة (عليه السلام)، وفي الميقات وفي الكوفة وجامع البصرة وفي عبادان وغير ذلك.

عن أحمد بن أبي المقدام العجلي قال: يروى أن رجلاً جاء إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال له: يا أمير المؤمنين إن لي إليك حاجة، فقال: اكتبها في الأرض فإني أرى الضر فيك بيناً، فكتب في الأرض أنا فقير محتاج، فقال علي (عليه السلام): يا قنبر اكسه حلتين، فأنشأ الرجل يقول:

كسوتنـــي حلــة تبلــى محاسنها فسوف أكسوك من حسن الثنا حللا

إن نلت حسن ثنائي نلت مكــرمة ولست تبغـــي بما قـــد نلتـــه بدلا

إن الثناء ليحيــي ذكــــر صاحبه كالغــيث يحيي نداه السهل والجبلا

لا تزهد الدهر في عرف بدأت به فكـــــل عـبـــد سيجزى بالذي فعلا

فقال (عليه السلام): أعطوه مائة دينار، فقيل له: يا أمير المؤمنين لقد أغنيته.

فقال: إني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: أنزل الناس منازلهم، ثم قال علي (عليه السلام): إني لأعجب من أقوام يشترون المماليك بأموالهم ولا يشترون الأحرار بمعروفهم.

عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله)(12) قال: نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام).

عن أيوب بن عطية الحذاء قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قسم نبي الله الفيء فأصاب علياً أرض، فاحتفر فيها عيناً فخرج ماء ينبع في السماء كهيئة عنق البعير، فسماها ينبع، فجاء البشير يبشر فقال (عليه السلام) بشر الوارث هي صدقة بتة بتلاء في حجيج بيت الله وعابر سبيل لا تباع ولا تورث، فمن باعها أو وهبها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً.

قال ابن أبي الحديد في شرحه، وأما السخاء والجود: فحاله فيه ظاهرة كان يصوم ويطوي، ويؤثر بزاده، وفيه أنزل (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً)(13) وروى المفسرون: أنه لم يملك إلا أربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سراً، وبدرهم علانية، فأنزل فيه: (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية)(14).

وروي أنه كان يسقي بيده النخل لقوم من يهود المدينة حتى مجلت يداه، ويتصدق بالأجرة، ويشد على بطنه حجراً.

قال الشعبي ـ وقد ذكره (عليه السلام): كان أسخى الناس، كان على الخلق الذي يحبه الله: السخاء والجود، ما قال: لا، لسائل قط.

وقال عدوه ومبغضه الذي يجتهد في وصمه وعيبه: معاوية بن أبي سفيان ـ لمحفن بن أبي محفن الضبي ـ (لما قال له: جئتك من عند أبخل الناس): قال ويحك! كيف تقول: إنه أبخل الناس وهو الذي لو ملك بيتاً من تبر وبيتاً من تبن، لأنفد تبره قبل تبنه؟!!

علي (عليه السلام) والعدل

العدل: ما أحلى هذا الاسم عند النفوس المظلومة، وما أحبه إلى المضطهدين وما أبغضه عند الظالمين الذين يزاحم العدل منافعهم، وأرباحهم.

هذه الكلمة التي تتلهف إليها النفوس وعليها أساس الملك وبها نظام الاجتماع واعتداله، وإنني أعتقد أن أصعب قانون يمكن تطبيقه وتنفيذه في المجتمع هو قانون العدالة!! لاصطدام هذا القانون بنزعات الأقوياء الذين لو كانت العدالة موجودة لما كانوا أقوياء، وهؤلاء في طليعة المكافحين لهذه الفضيلة، والتاريخ والحس والوجدان شواهد على هذا، ولا أراني بحاجة إلى دليل.

ومن لوازم تطبيق العدالة وتنفيذها قوة الإيمان بالله تعالى والتقوى أولاً، وحزم وعزم فوق كل عاطفة واتجاه ومصانعة ثانياً وعدم الخوف من المشاكل المتوقعة، المحتمل وقوعها ثالثاً.

وقد توفرت هذه المؤهلات كلها في نفسية علي (عليه السلام) فهو الإيمان كله والتقوى المتجسدة، وهو أقوى رجل يستطيع السيطرة على أعصابه وعواطفه وهو الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، وهو الحق المحض الذي لا يشوبه شيء، ونستطيع أن نقول: إن تطبع نفسية الإمام (عليه السلام) على العدالة والتزامه بها بالغاً ما بلغ هو السبب الوحيد الذي فرق عنه ذوي الأطماع والأغراض، وأخاف ذوي المناصب والكنوز التي كانت عصارة دماء المسلمين، وهدد الفسقة الفجرة الذين استوجبوا إقامة الحدود الإلهية وقطع آمال المستغلين وآماني حواشي السلاطين، وغير ذلك من الأمور التي تدرك ولا توصف، فاجتمعت هذه العوامل، وأججت نيران الحروب الداخلية ضد الإمام (عليه السلام).

إذ لولا عدالة علي (عليه السلام) لما ذهب أخوه عقيل إلى معاوية ولولا عدل أبي الحسن (عليه السلام) لما انضم طلحة والزبير إلى عائشة للمساهمة في تكوين حرب الجمل.

لو كان علي (عليه السلام) ظالماً لأمهل معاوية يتصرف في مقدرات المسلمين وما كانت حرب صفين.

وهكذا وهلم جراً، فإن كانت العدالة نغصت على علي (عليه السلام) عيشته وسلبته الراحة والاطمئنان، وجرت عليه النوائب فإن التاريخ الصحيح عرف لعلي (عليه السلام) هذه الفضيلة وشكره عليها، وإن كان بعض الشواذ يعتبرون العدالة منافية للسياسة، ويرون الأرجح تقديم السياسة على الدين عند التعارض، فإن علياً (عليه السلام) يضرب بالسياسة ـ التي تزاحم دين علي (عليه السلام) ـ عرض الجدار ويتبرأ منها.

وهو التلميذ الأول للرسول (صلّى الله عليه وآله) والمعلم الثاني للأمم عبر التاريخ، ولو كان علي (عليه السلام) يمشي وراء السياسة لعرفه التاريخ رجلاً سياسياً فحسب، وما كانت الملوك والعظماء يطأطئون هاماتهم أمام عظمته وينظرون إليه بكل تقدير وتقديس.

نذكر نماذج من تلك العدالة، ولا يسعنا الإسهاب في الكلام لضيق المجال، ولعلنا نستطيع التحدث عن هذه الفضيلة بصورة أوسع في مناسبة أخرى إن شاء الله.

دخل عمرو بن العاص على أمير المؤمنين (عليه السلام) ليلة وهو في بيت المال وكان الإمام ينظر في أموال المسلمين وحسابهم ودواوين العطاء وعنده سراج يضيء بنوره الضئيل، وقد اشترى زيت السراج من بيت المال، لأن السراج عائد لمصالح بيت مال المسلمين.

فلما دخل ابن العاص وأراد أن يتحدث مع الإمام في بعض الشؤون أطفأ الإمام السراج وجلس في ضوء القمر ولم يستحل أن يجلس في الضوء بغير استحقاق!! وبنى (عليه السلام) موضعاً تحبس فيه الإبل والغنم الضالة يقال له: (المربد) فكان يعلفها علفاً لا يسمنها ولا يهزلها من بيت المال.

فلمن أقام عليها بينة أخذها، وإلا أقرها على حالها.

وتظهر الحكمة في تحديد كمية علف الحيوانات، وهي رعاية الحيوان والمحافظة عليه ورعاية بيت المال والاهتمام به.

في الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: بعث أمير المؤمنين (عليه السلام) مصدقاً من الكوفة (المصدق: عامل الزكاة التي يستوفيها) إلى باديتها وقال: يا عبد الله: انطلق، وعليك بتقوى الله وحده لا شريك له ولا تؤثرن دنياك على آخرتك، وكن حافظاً لما ائتمنك عليه، مراعياً لحق الله فيه حتى تأتي نادي بني فلان، فإذا قدمت فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم ثم امض إليهم بسكينة ووقار حتى تقدم بينهم وتسلم عليهم ثم قل لهم: يا عباد الله أرسلني إليكم ولي الله لآخذ منكم حق الله في أموالكم فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه؟ فإن قال قائل لك: لا .

فلا تراجعه، وإن أنعم لك منهم منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو تعده إلا خيراً، فإذا أتيت ماله فلا تدخله إلا بإذنه، فإن أكثره له، فقل: يا عبد الله أتأذن لي في دخول مالك؟ فإن أذن لك فلا تدخله دخول متسلط عليه فيه، ولا عنف به، فاصدع المال صدعين ثم خيّره أي الصدعين شاء، فأيهما اختار فلا تعرض له، ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيره فأيهما اختار فلا تعرض له، ولا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله تبارك وتعالى في ماله، فإذا قبض يقرأ ذلك فاقبض حق الله منه وإن استقالك فأقله، ثم اخلطهما واصنع مثل الذي صنعت أولاً، حتى تأخذ حق الله في ماله، فإذا قبضته فلا توكل به إلا ناصحاً أميناً حفيظاً غير معنف بشيء منها، ثم احدر كلما اجتمع عندك من كل ناد إلينا فصيره حيث أمر الله عز وجل، فإذا انحدر فيها رسولك فأوعز إليه أن لا يحول بين ناقة وفصيلها ولا يفرق بينهما، ولا يمصرن لبنها فيضر ذلك بفصيلها ولا يجهد بها ركوباً، وليعدل بينهن في ذلك وليوردهن كل ماء يمر به، ولا يعدل بهن عن ليت الأرض إلى جواد الطريق في الساعة التي فيها تريح وتغبق، وليرفق بهن جهده حتى يأتينا بإذن الله سحاحاً سماناً غير متعبات ولا مجهدات، فنقسمهن بإذن الله على كتاب الله وسنة نبيه (صلّى الله عليه وآله) على أولياء الله فإن ذلك أعظم لأجرك وأقرب لرشدك، ينظر الله إليها وإليك وإلى جهدك ونصيحتك لمن بعثك وبعثت في حاجته، فإن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: ما ينظر الله إلى ولي له يجهد نفسه بالطاعة والنصيحة له ولإمامه إلا كان معنا في الرفيق الأعلى.

قال: ثن بكى أبو عبد الله (عليه السلام) ثم قال: لا والله ما بقيت لله حرمة إلا انتهكت، ولا عمل بكتاب الله وسنة نبيه في هذا العالم، ولا أقيم في هذا الخلق حد منذ قبض الله أمير المؤمنين (عليه السلام) ولا عمل بشيء من الحق إلى يوم الناس هذا، ثم قال: أما والله لا تذهب الأيام والليالي حتى يحيي الله الموتى ويميت الأحياء ويرد الله الحق إلى أهله ويقيم دينه الذي ارتضاه لنفسه ونبيه (صلّى الله عليه وآله)، فابشروا ثم ابشروا ثم ابشروا فوالله ما الحق إلا في أيديكم.

في البحار: روي أن سودة بنت عمارة الهمدانية دخلت على معاوية بعد موت علي (عليه السلام)، فجعل يؤنبها على تحريضها عليه أيام صفين، وآل أمره إلى أن قال: ما حاجتك؟ قالت: إن الله مسائلك عن أمرنا وما افترض عليك من حقنا، ولا يزال يتقدم علينا من قبلك من يسمو بمكانك، ويبطش بقوة سلطاتك فيحصدنا حصد السنبل ويدوسنا دوس الحرمل، يسومنا الخسف ويذيقنا الحتف، هذا بسر بن أرطأة قدم علينا فقتل رجالنا، وأخذ أموالنا، ولولا الطاعة لكان فينا عزة ومنعة، فإن عزلته عنا شكرناك وإلا كفرناك، فقال معاوية: إياي تهددين بقومك يا سودة؟ لقد هممت أن أحملك على قتب أشوس فأردك إليه فينفذ فيك حكمه، فأطرقت سودة ساعة ثم قالت:

صلى الإله على روح تضمنها قبر فأصبح فيه العدل مدفــونا

قد حالف الحق لا يبغي به بدلا فصار بالحق والإيمان مقرونا

فقال معاوية: من هذا يا سودة؟ قالت: هو والله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) والله لقد جئته في رجل كان قد ولاه صدقاتنا، فجار علينا، فصادفته قائماً يصلي، فلما رآني انفتل من صلاته ثم أقبل علي برحمة ورفق ورأفة وتعطف، وقال: ألك حاجة؟ قلت: نعم فأخبرته الخبر، فبكى ثم قال: اللهم أنت الشاهد علي وعليهم، وأني لم آمرهم بظلم خلقك، ثم أخرج قطعة جلد فكتب فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم.

قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلك خير لكم إن كنتم مؤمنين، فإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك، والسلام).

ثم دفع الرقعة إلي، فو الله ما ختمها بطين ولا خزنها، فجئت بالرقعة إلى صاحبه فانصرف عنا معزولاً، فقال معاوية: اكتبوا لها كما تريد، واصرفوها إلى بلدها غير شاكية.

علي (عليه السلام) والعبادة

في الأمالي عن عروة بن الزبير قال: كنا جلوساً في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فتذاكرنا أعمال أهل بدر وبيعة الرضوان، فقال أبو الدرداء: يا قوم ألا أخبركم بأقل القوم مالاً وأكثرهم ورعاً وأشدهم اجتهاداً في العبادة؟ قالوا: من؟ قال: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: فوالله إن كان في جماعة أهل المجلس إلا معرض عنه وجهه، ثم انتدب له رجل من الأنصار فقال له: يا عويمر لقد تكلمت بكلمة ما وافقك عليها أحد منذ أتيت بها، فقال أبو الدرداء: يا قوم إني قائل ما رأيت، وليقل كل قوم منكم ما رأوا، شهدت علي بن أبي طالب (عليه السلام) بشويحطات (أشجار) النجار، وقد اعتزل عن مواليه واختفى ممن يليه واستتر بمغيلات النخل، فافتقدته وبعُد علي مكانه، فقلت: لحق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجي وهو يقول: (إلهي كم من موبقة حلمت عن مقابلتها بنقمتك، وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك، إلهي إن طال في عصيانك عمري وعظم في الصحف ذنبي فما أنا مؤمل غير غفرانك، ولا أنا براج غير رضوانك) فشغلني الصوت واقتفيت الأثر، فإذا هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعينه فاستترت له وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر، ثم فرغ إلى الدعاء والبكاء والبث والشكوى، فكان مما به الله ناجاه أن قال: (إلهي أفكر في عفوك فتهون علي خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم علي بليتي) ثم قال: (آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت محصيها، فتقول: خذوه.

فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء) ثم قال: (آه من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزاعة للشوى، آه من غمرة من ملهبات لظى).

قال: ثم انغمر في البكاء فلم أسمع له حساً ولا حركة فقلت غلب عليه النوم لطول السهر، أوقظه لصلاة الفجر، قال أبو الدرداء: فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحركته فلم يتحرك، وزويته فلم ينزو) فقلت: (إنا لله وإنا إليه راجعون) مات والله علي بن أبي طالب.

قال: فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم، فقالت فاطمة (عليها السلام): يا أبا الدرداء ما كان من شأنه ومن قصته؟ فأخبرها الخبر، فقالت هي والله ـ يا أبا الدرداء ـ الغشية التي تأخذه من خشية الله، ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق، ونظر إلي وأنا أبكي، فقال: مما بكاؤك يا أبا الدرداء؟ فقلت: ما أراه تنزله بنفسك، فقال: يا أبا الدرداء فكيف ولو رأيتني ودعي بي إلى الحساب وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ وزبانية فظاظ، فوقفت بين يدي الملك الجبار قد أسلمني الأحياء ورحمني أهل الدنيا، لكنت أشد رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية، فقال أبو الدرداء: فوالله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

قال ابن أبي الحديد: وأما العبادة: فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاة وصوماً، وملازمة للأوراد، وقيام النافلة، وما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده: أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير فيصلي عليه ورده، والسهام تقع بين يديه، وتمر على صماخيه يميناً وشمالاً، فلا يرتاع لذلك ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته؟؟ وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده؟ وأنت إذا تأملت دعواته ومناجاته، ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله، وما يتضمنه من الخضوع لهيبته والخشوع لعزته، والاستخذاء له عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص، وفهمت من أي قلب خرجت، وعلى أي لسان جرت؟؟!! وقيل لعلي بن الحسين (عليه السلام) ـ وكان الغاية في العبادة ـ : أين عبادتك من عبادة جدك؟ قال: عبادتي عند عبادة جدي كعبادة جدي عند عبادة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

علي (عليه السلام) وطلاقة الوجه مع المهابة

قال ابن أبي الحديد في مقدمته على شرح النهج: وأما سجاحة الأخلاق وبشر الوجه وطلاقة المحيا والتبسم فهو مضروب به المثل فيه، حتى عابه بذلك أعداؤه، قال عمرو بن العاص لأهل الشام: إنه ذو دعابة شديدة، وقال علي (عليه السلام) في ذلك: عجباً لابن النابغة! يزعم لأهل الشام أن في دعابة وإني امرؤ تلعابة، أعافس وأمارس.

وعمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر لقوله ـ لما عزم على استخلافه ـ : لله أبوك! لولا دعابة فيك.

إلا أن عمر اقتصر عليها وعمرو زاد فيها ونسجها.

قال صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه: كان فينا كأحدنا، لين جانب، وشدة تواضع، وسهولة قياد.

وكنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه.

وقال معاوية لقيس بن سعد: رحم الله أبا حسن فلقد كان هشاً بشاً، ذا فكاهة، قال قيس: نعم كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يمزح ويبتسم إلى أصحابه، وأراك حسواً في ارتغاء وتعيبه، أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى، تلك هيبة التقوى ليس كما يهابك أهل الشام!!



(1) سورة الإسراء، الآية: 84.

(2) سورة الإسراء، الآية: 84.

(3) سورة الكهف، الآية: 29.

(4) سورة يونس، الآية: 35.

(5) سورة المؤمنون، الآية: 96.

(6) سورة البقرة، الآية: 269.

(7) سورة الزمر، الآية: 65.

(Cool سورة الروم، الآية: 60،

(9) سورة الإسراء، الآية: 71.

(10) سورة الحشر، الآية: 9.

(11) سورة الحشر، الآية: 9.

(12) سورة البقرة، الآية: 265.

(13) سورة الإنسان، الآيتان: 8 و9.

(14) سورة البقرة، الآية: 274.
مهند المسيباوي
مهند المسيباوي
عضو فعال جداً
عضو فعال جداً

ذكر عدد الرسائل : 75
الموقع : mohanad.iraq12@hotmail.com
العمل/الترفيه : mohanad.iraq12@hotmail.com
المزاج : يعني اضحك
تاريخ التسجيل : 07/02/2010

http://mohanad.iraq12@hotmail.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى